السبت 7 كانون الثاني 2006
-437-
1956: راشانا ضيعة منسيّة على خصر الشاطئ اللبناني. هادئة لا يخدش سكونها إلاّ مرور رفوف السنونو أول الربيع، وحفيف أجنحة العصافير بين أغصان أشجار اللوز، وصوت إزميل فتيٍّ في حوار مع حجر. بيوتها الضئيلة تستفيق صباحاً على هذا الحوار. تتساءل باستغراب عن ظاهرة ليست في تقاليد الضيعة: ميشال ابن الخوري شكرالله يقصِّب حجارة لا للعمارة (على دأب ما يألف الناس في تقصيب الحجارة للبنيان) بل لعرضها. هكذا، لعرضها وحسب. شو يعني “لعرضها وحسب”؟
1962: عجقة ناس تحت بيت بصبوص. “شو فيه”؟ يهرع الراشانيون يسألون. “ولاد بصبوص عاملين مهرجان راشانا للمسرح”. لا كهرباء في الضيعة. جيء بِمولّد من زحلة. كل هذا التعب لليلة واحدة. وتتالت الليالي سنةً بعد سنة. بدأت راشانا تخرج من النسيان على خصر الشاطئ وتبرز نقطة ضوء على خارطة لبنان: منحوتات تنتصب على جانبي الطريق من المدخل الى”كعب الضيعة”. بدأ الناس يرتادون راشانا. يجولون بين المنحوتات. يزورون بيت بصبوص. بدأت الصحافة تكتب عن راشانا: المؤسس ميشال (مولود عام 1921). شقيقه أَلفرد (مولود عام 1924). الشقيق الأصغر يوسف (مولود عام 1929).
سنةً بعد سنة، تنتشر راشانا إلى آفاق أوسع. لم تعد ضيعة منسية على خصر الشاطئ. لم تعُد نقطة ضوءٍ على خارطة لبنان وحسب. أصبحت متحف النحت في الهواء الطلق. جعلها البصابصة نقطة ضوء لبنانية في العالم، بمعارضهم خارج لبنان، بأعمالهم في المتاحف والغالريات والموسوعات التشكيلية العالمية.
1981: يسقط الإزميل من يد ميشال. ينكسر الإزميل. غاب المؤسس. لم تَغِب راشانا. أكمل ألفرد. ومعه يوسف. وبقي ميشال حاضراً بروحه و”معلّميّته” و”مشروع راشانا”.
1994: يؤسس ألفرد “محترف راشانا للنحت في الهواء الطلق”. وانطلق “السمبوزيوم” بسهر ألفرد يوسّع أفق راشانا بأزاميل عالمية من كل البلدان. بات “سمبوزيوم” ألفرد هدفه الأحب، ومقصد الناس إلى راشانا: يزورون متحف ميشال، يزورون معرض ألفرد، ويقصدون ساحة “السمبوزيوم”. وألفرد يعمل بلا كلل. وشَعره الهاشل يَتعب من طموح لا يَتعب.
2001: يسقط الإزميل من يد يوسف. يلتحق الشقيق الأصغر بشقيقه الأكبر ميشال. يواصل ألفرد توسيع راشانا عالمياً، بإزميله المبدع وبـ”السمبوزيوم” مشروعه الأحَبّ. لم يشأ أن يستأثر بالموهبة. أراد توسيعها لتنتقل الشعلة بأمانٍ وأمانة من جيل إلى جيل. والمبدع الحقيقي من كان غَيرياً في توزيع موهبته قمحاً للعصافير الزغبة.
أول يوم من 2006: ودّعْنا ألفرد الجسد. سقط الإزميل من يده، لكنّ الشعلة لم تسقط. ولن. وتستمرّ راشانا بفضله (السمبوزيوم وأعماله المبدعة) وبفضل المؤسس ميشال الذي غاب جسداً قبل ربع قرن، ويوسف الذي أكمل العقد الإبداعي.
2056: سيجيء ناس إلى راشانا. سيقول أحدهم (وهو شاعر): “منذ 100 عام (1956) نهضت راشانا من النسيان إلى الإبداع. منذ 50 عاماً (2006) غاب ثالث البصابصة. واليوم (2056) بعد مئة عام لا يعرف أحد من كان حاكماً أو وزيراً أو نائباً حين نهضت راشانا (1956) ولا حين غاب أَلفرد آخر البصابصة (2006). لكننا اليوم نعرف أن راشانا خالدة بميشال وألفرد ويوسف. وحده المبدع يكمل في الزمان. ما أتعس رجال السياسة. آنيون عابرون زائلون. وما أعظم الإبداع: يَخْلُدُ منه حتى الغبار على طرف إزميل حمله ذات يوم ميشال أو أَلفرد أو يوسف بصبوص.