السبت 17 كانون الأول 2005
-434-
بالكلمة نقاوم وبالقلم. إذا سقط القلم من يد أحدنا، يمتشقه آخَر ويُكمل. المهم ألاّ تسقط الكلمة. وهي لن تسقط طالما في لبنان أقلامٌ تكتب عبارة “لبنان العظيم” مؤمنةً بها، مناضلة من أجلها، مدافعةً عنها حتى الاستشهاد.
أوصيتَنا، يا معلِّمنا وكبيرنا غسان تويني، ألاّ ننتقم، ألاّ نحقد، ألاّ نريق دماً. أوصيتَنا أن ندفن الأحقاد مع جبران وأن ننادي بقسَمه في ساحة الشهداء يوم 14 آذار، وذهب ضحيته. فليكن. سنأتمر بتوصياتك، يا معلِّمنا وكبيرنا غسان تويني، ولكن كيف تريدنا أن نصرخ بصوت واحد: “نُقسم بالله العظيم، مسلمين ومسيحيين، أن نبقى موحّدين دفاعاً عن لبنان العظيم” حين تكون صفوفنا غير خالية بعدُ من اليوضاسيين؟ ألا تُمهلنا، يا معلِّمنا وكبيرنا غسان تويني، كي ننظّف صفوفنا؟
حتى الذي قال: “من ضربك على خدك الأيمن أدر له الأيسر” لم يكن يقصدها بمعنى الخضوع والخنوع والذُّل والانكسار والاستسلام للأمر الواقع. حتى هو نفسه الذي قال: “إغفر لهم يا أبتاه لأنهم لا يدرون ماذا يفعلون” عاد فحمل الكرباج الناريّ ودخل الهيكل سائطاً تجار الهيكل والفريسيين لأنهم جعلوا بيت الصلاة مغارة للّصوص. وكان يعرفهم يومها. وكان يراهم يومها. وكان يرى من يسوط يومها بكرباجه. فكيف بنا نحن ولا نرى من يقتلوننا ويدرون تماماً ماذا يفعلون؟
حتى هو نفسه، على الصليب، رفع عينيه المدمَّاتين وصرخ: “يا أَبتاه، أبعِد عني هذه الكأس”. فكيف بنا نحن، والكأس مُصْلَتة علينا كل يوم، وعيوننا مدماة بالدمع على لبنان الذي جعلوه وطن المآتم المتعاقبة، وطن الجنائز المتتالية، وطن النعوش المتهادية على بحر من الأحبة والأصدقاء الأوفياء، وطن الشهداء الذين يسقطون والشهداء الأحياء الذين نجوا من السقوط والشهداء المرشحين أن يسقطوا، وطن الزوجات الأرامل والزوجات المرشحات أن يترمّلن بين عشية وصباح، وطن الأولاد اليتامى والمرشحين أن يصبحوا يتامى بين عيد وعرس، وَطَناً بلا سقف مرشحاً للإصابة بالحجارة والمطر، فكيف والحجارة على لبنان من كل صوب، وأمطاره مفخَّخة بساديّة من يُشبع حقدَهم تناثُرُ أشلاء شهدائنا وضحايانا؟
تريدنا لا ننتقم ولا نحقد ولا نريق دماً، يا معلِّمنا وكبيرنا غسان تويني؟ حاضرون. سنأتمر بتوصياتك. لن نُبغض إنما اسمح لنا أن نَغضب. وللغضب طقوس. ومن طقوس الغضب أن نعرف من هو الذي تقدَّم يبوس المعلِّم في بستان الزيتون لقاء ثلاثين من الفضة ثمن قبلة الخيانة. سنغفر له يا أُستاذ غسان. وعدُنا لك أن نغفر له، وألاّ ننتقم، وألاّ نحقد، وألاّ نريق دماً على يدنا ولا على ضميرنا، إنما فاسمح لنا أن نصرَّ على معرفة من هو. وبانتظار أن نعرف، اسمح لنا أن نُبقي الصوت عالياً، والسوط عالياً، والقلم عالياً، وشعلة جبران عالية، الى أن نعرف من هو، فيهنأ جبران حيث هو الآن بأننا فاجأْنا وطاويط العتمة بديك “النهار” يصيح على ضمائرهم، هم الذين خانوا لبنان ثلاثين مرة ثلاث مرات قبل صياح الضمير.
وعدُنا لك، يا غسان تويني، أن نسامح من دون أن ننسى، كي يظل لنا تراث ذاكرة ننقله الى أولادنا وأحفادنا حتى يظلُّوا على أيامهم أيضاً متماسكين موحَّدين مسلمين ومسيحيين دفاعاً عن لبنان العظيم الذي من أجله استشهد جبران وهو حامل صوته عالياً وقلمه عالياً وشعلة الحرية عالية.
بالكلمة نقاوم وبالقلم. سقط القلم من يد جبران لكن يده ما زالت عالية، كأرزة على قمة لبنان، وفي مقبضها شعلة ستبقى عالية على جبين “النهار” التي دفعت أجيال تضحيات دفاعاً عن “لبنان العظيم”.