السبت 4 حزيران 2005
-410-
سأتّخذ من صدور كتابه الجديد “رواية بيروت” (الأسبوع الماضي عن منشورات “بلون” في 375 صفحة حجماً كبيراً) حجّة لأكتب عنه هو لا عن روايته. هذه ستجد مَن يكتب عنها هنا (ضئيلاً) وفي فرنسا (كثيراً) ما ينقلها تلقائياً (كبعض مؤلفاته الأُخرى) الى لُغاتٍ حيّة عالمية أُخرى. سأكتب عنه هو: ظاهرةً خارقة. فهذا اللَم يبلُغ الأربعين بعد (ولادة 1967) بلغَت مؤلّفاته (مضموناً وعدداً) ما يمكن أن يكون آثار أديب كامل مكتهل العمر والمؤلفات.
ما سِرّه وراء هذه الظاهرة؟ أهي وحدها الموهبة؟ يقيناً لا. فموهبته الأدبية واللغوية (بالفرنسية) على أصالتها وتوهُّجها اللمّاع واللمّاح، ترفدها دُربة أُخرى لا تقلُّ عنها أهميةً وموهبة: معرفة استخدام الوقت. فمن يعرف ألكسندر نجّار (كما أعرفه) يعلم أنه ليس أديباً متفرّغاً كلّياً للكتابة، بل هو محامٍ وكيل ملفات كبرى تشغل أمثالُها مكاتب كبرى بكامل طاقم محاميها والمستشارين. من هنا أنه ليس “مؤلِّفاً” إلا يومَي نهاية الأُسبوع فقط (السبت والأَحد) وفي الخمسة الباقية يلاحق دعاواه وملفات موكّليه الذين تضاعفوا فجأةً بعد إصابة والده (المحامي الكبير روجيه نجّار بعارض صحي أقعده عن المواصلة) أو يزاول أعمالاً أُخرى جانبية (محاضرات، ندوات، مداخلات في مؤتمرات، استشارات شبه يومية لوزارة الثقافة منذ سنوات، مع ما يستوجبه وقت مستشار الوزير من مواعيد وساعات عمل طويلة ولقاءات وتحضيرات وهدْر وقت على اجتماعات ومناسبات وانتدابات).
هو، حسَم الأمر في حزم: السبت والأَحد للتأليف، تساعده على ذلك زوجة شابة متفهّمة (غادة التي أهدى إليها “رواية بيروت”). وهو أبٌ لطفلين يراهما لُماماً بعد عودته من مكتبه ليلاً، ويريانه لُماماً يومَي السبت والأحد حين هو في “حالة تأليف”.
هكذا، ومن هذين اليومين فقط كل أُسبوع، تَمكَّن حتى اليوم من وضع أربع روايات (اثنتان حازتا جائزتين عالميتين)، ثلاث سيَر (إحداها عن جبران)، ثلاث مجموعات قصصية (إحداها نالت جائزة عالمية)، مجموعتين شعريتين، مسرحية واحدة، وسلسلة توثيقية عن الجنرال ديغول في لبنان (صدر منها جزآن ضخمان والباقيان قريباً)، ومعظمها مؤلفات في الرواية التاريخية والمؤلفات التوثيقية تتطلب أبحاثاً وقراءات ومراجعات وأسانيد ومراجع قبل الشروع في كتابته النص بتلك الفرنسية الساحرة التي يمتلكها هذا الشاب اللبناني الرائع التي باتت أوساط باريس الأدبيّة تعرفه كما تعرف أبناءها وكتّابها الفرنكوفونيين العالميين. ولأنه يكتب بالفرنسية (لغة عالمية حية) فتحت له الفرنسية آفاق ترجمة عدد من مؤلفاته الى لغات حية أُخرى هو اليوم على خارطة مؤلفيها العالميين.
كل ذلك على تواضع أخلاقي جَمّ، واكتنازٍ لبناني عميق، ومواطنية إبداعية خلاّقة تجعل من ألكسندر نجار كاتباً لبنانياً عالمياً نهنّئنا به، وأكثر: نتعلّم منه كيف يكون الكاتب المحترف بالمواصفات الإنتاجية الرصينة: الجدّية في البحث، الجدية في الكتابة، الجدية في إعطاء الوقت الكافي، الجدية في معرفة استخدام الوقت (عوض التسكّع في المقاهي والمطاعم والكوكتيلات والسهرات والمناسبات الاجتماعية)، وتخصيص ساعاتٍ صافية من الحياة اليومية للقراءة والقلم حتى يكون التأليف هو الهدف، وتخصيص الوقت له هو الوقت الرئيس، وكل الباقي من التفاصيل الآنيّة الزواليّة العابرة التي تهدر العمر بدون طائل.
ألكسندر نجار، الذي يكبر ابني بما سوى خمسة أعوام، أتعلّم منه (كما يتعلّم جيلنا من جيل أبنائنا الذين هم أبناء المستقبل) كيف يكون نبْذ النوافل الآنيّة، وكيف يكون الانصراف الى التأليف الذي هو الباقي المعلوم هُنا بعدما نغمض عيوننا ونرحل الى الهناك المجهول.