الاثنين 4 نيسان 2005
-401-
لم يحدُث، قبله، أن زار رأْسُ الكنيسة بلَداً ليس يبدو في روما إلاّ نقطةً صغيرة على الخارطة. لكنه، هو، كان يعرف أنّ لبنان، لبنانَ الكتاب، أرضَ البخور والقداسة، ليس نقطة صغيرة على الخارطة بل وطنُ أعلام كبار من مدرسة روما (السمعاني، الإهدني، الحاقلاني، الصهيوني، …) وهو وطنُ شربل ورفقة والحرديني، وهو الوطن الذي يصهر على أرضه الحياة الواحدة (لا “التعايُش” ولا “العيش المشترك”) بين أهل العائلات الروحية المتعدِّدة، فقاله أكبر من بلدٍ وسماه “الوطن الرسالة”، وحَمَل الفاتيكان بكل هيبته وجاء به إلى أرض لبنان واعياً أنه لا يأتي إليه للتبشير (فهو وطن البشارة الدائمة بالإنسان العريق) بل لكي يسيرَ قداستُه على الأرض التي (كما يُثبت المستشرق الكبير البروفسور الإيطالي مارتينيانو بليغرينو رونكاليا في كتابه “على خطى المسيح في فينيقيا لبنان” الصادر لدى “المؤسسة العربية للدراسات ما بين الشرق والغرب”) “زارها المسيح بين العامين 28 و30 ومشى فيها على أرض صيدا وصور (إليهما كان يلجأُ للابتعاد عن الحشود) وصربتا (الصرفند، حيث شفى المرأة الكنعانية) وقيصرية فيليبّي (مرج مرجعيون – جديدة مرجعيون- سفح جبل حرمون) ثم جبل حرمون، وتجوّل قداسته في لبنان الذي “على أرضه تَحَدَّثَ المسيح للمرة الاولى عن موته وقيامته”.
يومها (ومن هذه الـ”أزرار” بالذات) تَمنَّيْنا لو انّ جولته شملت قانا، قانا الجليل الأصلية، قانا لبنان التي (بما لم يعُد يقبل أيّ جدل) شهِدت الأعجوبة الأولى لِمَن دخل لبنان “يسوع” وخرج منه “المسيح” بعدما “مشح” الماء خمراً في العرس.
وقبل أن يُسدي قداسته “الإرشاد الرسولي- رجاء جديد للبنان” قال (في 11 أيار 1997 من بازيليك سيّدة لبنان في حريصا على إحدى أجمل تلال لبنان) إنّ “تاريخ هذا البلد طالَما فاض عن حدوده الجغرافية وأصبح محور اهتمام الأُمم”. وبارك شباب لبنان (“أنتم غنى لبنان”) وأوصاهم بأن يكونوا “رجاء لبنان”، وقبل أن يغادره صلّى على أرض بيروته الغالية وباركه وعاد، وبقي (من نافذة غرفته المطلة على ساحة مار بطرس) يَذكر لبنان ويُبارك لبنان ويُصلّي للبنان.
أراد له مجمع الكرادلة أن يكون خليفة بطرس على رأْس الكنيسة، فكان بطرس الصخرة ويوحنا الإنجيلي وبولس الرسول: لم يجلس في الفاتيكان ليأتي إليه المؤمنون، بل حمل الفاتيكان في هيبته القدوسة وذهب هو إلى المؤمنين المسيحيين وإلى غير المسيحيين (المسجد الأموي في دمشق، وادي غور الأردن، …) فـ”مَشَحَ” البشر والحجر بيمناه المباركة.
قد يكون مدركاً أنه، بين رحلاته الرعَوية الـ 104، كانت رحلته للبنان مُميّزة بِمدلولها (إعلانه لبنان “الوطن الرسالة”) وربما لم يكن مدركاً أنه، بتلك الزيارة، أعاد لبنان بهياً رسولياً إلى خارطة العالم (بعدما كان قبله، طوال عشرين عاماً في ذاكرة العالم، بلد الحرب والموت والدمار). فحين وسائلُ الإعلام العالمية نقلت زيارةَ قداسته لبنانَ الشعب والأرض، نقلَت معه أقوالَه عن لبنان حاملةً إلى العالم صورة لبنان كما رآه الحبر الأعظم لا كما كان يراه اليوضاسيُّون.
ولعلَّه، هو الذي لم يفقد وعيه حتى لحظته الأخيرة راغباً في دخول السماء مفتوح العينين، كان في باله “وطنٌ رسالةٌ” أودعَه الصلاة والرجاء كأنه يتمتم “المجد لله في العلى، وعلى الأرض السلام، والرجاء الصالح لبني لبنان”.
فليكن موته ولادة رجاءٍ دائمٍ لهذا “الوطن الرسالة” الذي يَنهضُ اليوم من جلجلته إلى القيامة الحقيقية.