السبت 26 آذار 2005
– 400 –
أكان يجب أن يكونَ ما كان، ويحصلَ ما حصل، لكي يصيرَ الذي صار؟
أكان من الضروري أن يقع الزلزال، حتى تخرجَ من حناجرها الأصواتُ عالية الصرخة، وتخرجَ من أوكارها الصقورُ غاضبةً بمناقيدها المسنونة، وتخرجَ من عرينها النمورُ مطيحةً كل خوف وكل حذر وكل تردُّد، ويخرجَ من بيوتهم الناس، من كل لبنان، كل لبنان، إلى قلب بيروت، غاضبين باعتزاز العلم اللبناني على جبينهم، هاتفين بالنشيد الوطني اللبناني ملء أصواتهم، رافضين كل وجود خارجي وكل تدخل خارجي وكل وصاية خارجية، مطالبين ما سوى بلبنان اللبناني الرأْي والقرار والمصير، متماسكين زنداً إلى زند وخصراً إلى خصر وكتفاً إلى كتف وقلباً إلى قلب؟
أكان من الضروري أن تأْتي الرهيبة الساعة الثالثة، حتى تزلزل الأرض، وتنشقّ السماء، ويكون برقٌ هائل، ويعقبه رعد هائل، وتهتزّ أرض لبنان، ويهبّ شعب لبنان، ويلتفت العالم إلى ما يجري في لبنان، ويتركز اهتمام قادة العالم جميعهم على الانفجار الذي حصل في لبنان فتشظَّى عالياً وبعيداً حتى بلغت شظاياه وحروقه فضاءات دول العالم وضمير العالم؟
أكان من الضروري أن يذهب لبنان إلى العشاء السري، وأن يكون بين الحاضرين يوضاس متربِّص، وأن يكون اللقاء في بستان الزيتون، وأن يسيل لعاب خبيث لثلاثين فضية، وأن يكون عناق الخيانة وتكون قبلة التسليم، وأن يتمّ الاعتقال، وأن يكون قرار التصفية، وأن ترتسم طريق الجلجلة بآلامها الطويلة وآمالها المكسورة ومراحلها النازفة موتاً وجراحاً وخوفاً وتهجيراً وهجرةً وزعزعةً اقتصادية ومالية، وأن يتوغّل القهر الساديّ حتى رفْع لبنان على الصليب، وأن ينهال الجلادون تعذيباً بسياط الخيانة والعمالة على جسد الوطن يتواطأ معهم، سراً وعلناً، بعض أهل البيت ممن ارتضوا، طمعاً بمنصب أو نيابة أو وزارة، أن يكونوا يوضاسيين وقيافاويين، وأن يشاركوا الطعن بالحربة في خاصرة الوطن، وإرواء عطشه بإسفنجة الخلّ، ووضع إكليل الشوك على هامته، حتى يصرخ الوطن: “إغفر لهم يا أبتاه لأنهم… يدرون تَماماً ماذا يفعلون”؟
أكان ضرورياً أن يكون زلزال 14 شباط، ليكون قبر ويهرع إليه الشعب، كل الشعب، فيدحرج الحجر عن باب القبر، ويخرج لبنان من الموت السريري إلى القيامة الضميرية؟
أكان ضرورياً كل هذا أعلاه؟ ولكن… أكان حصل الذي حصل وصار الذي صار وتغيَّر الذي تغيَّر، لو لم يكن الذي كان؟ استفهام استنكاري يطرح السؤال ويكون الجواب عنه بديهياً من قلب السؤال إلى تلقائية الجواب.
طويلاً كان عذاب لبنان. وطويلة دروب جلجلته. وقاسية. ومدمّرة. وكان لا بُدّ من شهادةٍ تاريخية بحجم لبنان التاريخي. وكان لا بُدّ من فداء عظيم بحجم تَحَوُّل عظيم يُخرج لبنان من موته السريري إلى صحوة ضمير العالم.
وكانت شهادة لم تهزّ لبنان فقط باستشهادها، بل هزّت العالم بالمعنى الحرفي لعبارة “هزّت العالم”، وخرج لبنان إلى خارطة العالم اليومية وطناً جديراً بالحياة لأن شعبه الفريد الرائع يستحق الحياة في وطنه الذي هو عنوان استحقاق الحياة.
كانت شهادة جاءت من مستقبل أجيال لبنان كي تبقى في ذاكرة المستقبل شمساً لا تغيب عن وطنٍ استحقَّ شعبُهُ زلزالَ الفداء لينتشِلَ وطنَه من براثن جلاّديه ويضعَه على طريق القيامة.