السبت 9 نيسان 2005
-402-
ثلاثون عاماً هذا الأُسبوع! الله، كم تغيَّر لبنان في ثلاثين عاماً: من الدخول في نفق الاستسلام إلى الخروج من نفق الاستزلام، من السقوط في نار الحرب إلى النهوض على وهج الحرية، من الخوف على تفسُّخ الخارطة إلى الثقة بتماسُك الشعب اللبناني موحّداً قوياً حاضناً وطنه بجميع يديه.
ثلاثون عاماً هذا الأُسبوع! الله، كم تغيَّر لبنان في ثلاثين عاماً: من طلقة الموت على “بوسطة” في ساحة مقصودة، إلى طلقة الحياة من المواطنين في ساحة مرصودة على الحرية والكرامة والشهادة والاستقلال.
وبعدما زلزالُ 14 شباط انهال بركاناً على زبانيته ومخططيه ومنفذيه قذفتْهم حممُه إلى دهاليز اللعنة الأبدية، وبعدما ظاهرةُ 14 آذار وحَّدت كل لبنان من كل لبنان في كل لبنان ولكل لبنان، سيُطلّ فجرُ 14 نيسان بهياً بعد أربعة أيام من إرادة عودة لبنان إلى الحياة انطلاقاً من قلب العاصمة التي خطط زبانيةُ الشرّ له ولها أن يتوقفَ فتموت.
أربعة أيام من حركة الحياة، لتقول إن قلب بيروت ارتطم بأكبر صدمة في تاريخه الحديث لكنّ شهيد العصر الذي سقط، وهو عريسُ بيروت وحبيبُها وشهيدُها،لم يسقط لكي يَسكُت معه قلب بيروت، بل لا يليق بحلمه أن ينكسر بسقوطه لأن حلمه أوسع من مدى منظور: إنه الحلم ببيروت لؤلؤة الشرق. هكذا أرادها، وهكذا عاهدَتْه يوم ودَّعته بمئات آلاف المشيّعين ليرقُد، مستاهلاً شهادته، في قلب مسجدٍ هو نفسه لؤلؤةٌ في قلب بيروت.
لم يبقَ قلبٌ في لبنان إلاّ تفجَّع، ولا في المنطقة إلاّ اضطرَب، ولا في العالَم إلاّ خفَق بالأسى والذّهول، لصدمةٍ أقوى من أن يتصوَّرها إنسان، فكان أقلّ ما داهم اللبنانيين على غفلتهم وصدمتهم والفاجعة يومها، أنهم تفاجعوا. وها هو اليوم قلب بيروت يدعوهم إلى لملمة الدموع على فقيد العصر، وكفكفة الحسرات على شهيد العصر، إكراماً لغيابه الأقوى من الحضور، ومواصلةً لحلمه ببيروت اللؤلؤة، يدعوهم إلى الانتقال من التفاجع على الموت إلى التبادُع على الحياة، من أسى الانهيار إلى إرادة الانتصار: الانتصار على الموت بالحياة، الانتصار على مخطط الفناء بخطّة البناء، الانتصار على نوايا المجرمين لتدمير بيروت ولبنان بنوايا المخْلصين للحفاظ على بيروت وحفْظ لبنان.
منذ مساء اليوم السبت إلى مساء الأربعاء 13 الجاري، خمسة أيام ليستعيد بها نبضتَه فينيقُ الحياة فينتفض من رماد موته، ويعود إلى تحليقه فوق بيروت الغد، بيروت المستقبل، بيروت الحياة، بيروت التي ستعود إلى شرايينِها نبضةُ الليل الذي لا ينام، ونبضةُ النهار الذي لا يهدأ، فأيُّ بقاءٍ لبيروت إن لم ينبض قلبُ بيروت؟
ومن بيروت إلى كل لبنان: عودة الحياة إلى الحياة في كل مفاصله، فعظمة الشهادة أن تكون قيامةً من الموت إلى الحياة، وعظمة القلب الذي سقط، أنه – وهو في سكوته الأبدي – أعطى نبضة الحياة الأبدية لمدينةٍ، منذ أول تاريخها عند خصر المتوسط، قدَرُها أن تصيبَها الزلازلُ فتنهض، وأن يحاصرَها الممات فتنتفض منه إلى الحياة، وأن يعلو فيها الدمار فتعلو عليه إلى العَمار، وأن يصيبَها مُخطّط الشر بحالة التفاجع فتنهض منه، أقوى وأنضر، إلى مواصلة التبادع.