399: عودة الأدمغة إلى الوطن الدماغ

السبت 19 آذار 2005
-399-
أفهم أن يكونوا غادروا وطنهم إلى أوطان آمنة، كما تغادر السنونو إلى مناخات آمنة، فربحت تلك الأوطان أدمغتهم، وخسرها لبنان حتّى لا يتذكّرهم إلاّ متى سجلوا نجاحاً باهراً في حيثما هم، فتتنطّح أقلامنا مبتهجة مهللة لتنادي بأنهم لبنانيون أو من أصل لبناني، فيما هم يكملون حياتهم المهنية هناك، يتذكرون لبنانهم في نوستالجيا مشوبة بالأسف على ما آل إليه لبنان، ويبقون في واقعهم هناك هانئين إلى طمأنينة أنهم وأولادهم في أوطان تؤمن المستقبل لهم ولأولادهم.
وأفهم أن يكونوا أشاحوا حتّى اليوم عن العودة إلى وطنهم المترجرج تحت خضّات سياسية وأمنية، الرازح تحت فوضى بيئية ونظامية ومؤسساتية في غياب أي حسيب أو رقيب أو حزمِ دولة يهابها مواطنوها فينضوون في سلوك مواطني تعصمه عن الزلل بنية فوقية لائقة وبنية تحتية مضبوطة ومنظّمة في إشراف ومتابعة وصيانة متواصلة.
وأفهم أن يكونوا رافضين العودة إلى وطنهم لأن القرار فيه مشرذم بين الداخل والخارج، ولأن التجاذب السياسي فيه مشلّع بين الداخل والخارج، ولأن الحياة السياسية فيه رازحة تحت الولاء لأشخاص لا للوطن، ولسياسيين لا لسياسة الوطن العليا، ولأن الحياة السياسية فيه “عالم ثالثية” تتحكّم بها المحسوبية والزبائنية والعشائرية والقبلية والمزرعية ويتحكّم بها المحاسب ووطاويط هذه السلطة أو تلك، وعملاء هذه الدولة أو تلك، في موزاييك فوضوي يميز في وضوح بين ابن ست وابن جارية، بين منبوذين لأنهم كانوا أزلام حكم بائد، ومحظيين لأنهم أزلام حكم راهن.
وأفهم أن يفضلوا البقاء في حيثما هم، لأنهم هناك آمنون إلى حاضرهم ضماناً اجتماعياً وتربوياً وصحياً ومدنياً، وإلى مستقبلهم ضمان شيخوخة وتقاعد، وإلى فرص عمل مفتوحة أمام أولادهم من دون أ، يحملوا بطاقات توصية ومن دون أن يكون محسوبين على زعيم زاروب أو سيد عشيرة أو قائد مزرعة أو منتمين إلى هذه الطائفة أو ذاك المذهب.
وأفهم أن يكونوا، من حيث هم، يتابعون التشاتم السياسي والحزبي، والتفاضح الكيدي، والتراشق العشائري، فيتشبثون أكثر بحيثما هم، في انتظار أن يتغيّر الوضع أعلاه في وطنهم فيعود سوياً في حماية دولة لا سلطة زئبقية.
غير أن لبنان الذي غادروه وتابعوه بما كان عليه، ها هو بدأ يتغير، فلن يعود لبنان الذي يختنق في النفق الفوضوي الطويل، والذي تتجاذبه القوى الخارجية كأنه قاصر أو مستسلم أو تابع أو مستزلم، والذي يضخّ عليه الخارج، أي خارج، ثاني أكسيد الكربون فيسحب منه أوكسيجين الكرامة والحرية والقرار اللبناني.
لبنان اليوم يخرج من عنق الزجاجة في عملية صعبة لكنها شارفت ختامها، وفي نهاية نفق ستنكسر عتمته لأن شعب لبنان قرر ألاّ يظل ينتظر ويصبر ويصدق، فنزل إلى قلب بيروت يمد شرايينه إلى كل لبنان يضخ فيها دم الحرية: حرية القرار اللبناني، حرية الخيار اللبناني، حرية إيصال ممثلين عن الشعب اللبناني لا يدينون بالولاء إلاّ للبنان، ويمدّون إلى الخارج، أي خارج، يداً مستقلة شريفة نظيفة حرة لا يداً مستزلمة خاضعة ذليلة تابعة تنفذ أوامر أسيادها الخارجيين.
لبنان اليوم يتهيأ لبناء مستقبل أبنائه. المقيمون منهم حاضرون، ويبقى المنتشرون في العالم، فليعودوا بأدمغتهم إلى الدماغ الأكبر: وطنهم الذي أعاد له شعبه صحّة التنفّس اللبناني، وسوف يرتفع، كما كان، منارة هذا الشرق التي توزّع على ليل الشرق شمس الحرية والكرامة ونهضة الإبداع.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*