391: حين تتنفَّس الحروف

السبت 22 كانون الثاني 2005
-391 –
كنت أستمتع بالحروف نبضاً بصرياً تؤنّقه براعة الكبار: الشيخ نسيب مكارم تَخطيطاً، د. سامي مكارم تَشكيلاً جمالياً، الفنان وجيه نَحلة إبداعاً كوريغرافياً، لكنني لم أَعرف لها ذاكرةً حتى قرأتُ كتاب سمير الصايغ “مذكرات الحروف”. وإنني، من معايشتي إياها يومياً، أَشعر أنّ لها تنفُّساً وفسحة حركة وطبعاً ومزاجاً ونبضاً ودورةً دمويةً وكل ما يؤمِّن لها الحياة الرغيدة وحقوق التصرُّف والسلوك. وهو ما سطع واضحاً في كتاب سمير الصايغ الذي كأنه لم يؤلّفه بل الْتزم تدوين أصوات الحروف كما أملَت هي عليه بِحنانها الناضح، فكان من خياله الخلاّق، ككاتب وفنان حروفي، أن يسرد لنا، ببراعةٍ لافتة، مذكرات هذا الحرف، أو ذاكرة ذاك، أو رسائل ذلك الى ذيالك، في كتاب رائع الصياغة، جميل التقديم، جماليّ الكتابة التخطيطية، توازياً مع رسوم حروفية بريشة الصايغ الصَنَاع، ما يَجعل هذا الكتاب مرجعاً ضرورياً مزدوج الإفادة: حروفياً من حيث الهندسة الجماليائية التخطيطية، وأدبياً من حيث هو تأليف يوتوبي جميل.
هذا التعامل مع الحروف، بهذه الرقّة والدقة والشفافية والخيال، من ضرورات الأديب، شاعراً كان أم ناثراً. وحُسْن التعامل مع الحروف، بل معرفة التعامل معها، يزيد الإبداع إبداعاً لأنها، هي – لا الكلمات – الأداة الأولى للكتابة.
ذات يوم كتب فاليري (وهو مَن هو في الأدب العالي شعراً ونثراً): “أبْحث عن كلمة معيّنة لعبارتي”، وراح يسرد لهذه الكلمة المنشودة ستة شروط كي تستقيم في المكان الذي يريدها له. والمبدع في الأدب، شعراً ونثراً، ليس الذي يضع الكلمة المناسبة في المكان المناسب (هذه بسيطة) بل أن يضع في المكان المناسب الكلمة التي لا يمكن وضع إلاّها. وهنا اللمعة التي تُميّز ناثراً عن ناثر وشاعراً عن شاعر.
وما الكلمة؟ ليست الشهقة الواحدة التي تنساب على القلم أو الورق. أبداً. الكلمة كرة أرضية كاملة، والحروف قاراتها، وكما لا يمكن القارة الواحدة أن تختزل الكرة كلها، ولا حتى قارتان، وكما لا كرة أرضية متكاملة بدون كل قارة كاملة على حدة، كذلك الكلمة لا تختصر لوحدها وفي ذاتها كل حروفها، ولا يمكن الحرف الواحد أن يختزل الكلمة. فكما كل قارة مستقلة في الكرة الأرضية، كذلك كل حرفٍ مستقلٌّ بذاته في الكلمة الواحدة. وقبل أن نتأنّى في مجاورة كلمتين، علينا أن نحسب -ضمن الكلمة الواحدة- حساب تَجاور الحروف مع بعضها البعض، فربَّ حرفين إذا تجاورا يتنافران، وربما يغنّيان ويُطربان وربما يظلاّن باردَين بدون أداء نابض وعلى الكاتب أن يستبدلهما بحرفين آخَرين أو أن يستبدل الواحد منهما بآخر كي يَخدم التجاورُ موسيقى الكلمة ككل، فيخدم تَجاورُ الكلمات موسيقى الجملة ككل.
بلى: هذه “الشروط” (وسواها طبعاً) ضروريةٌ لأدوات الكاتب، وتماميّتُها هي التي تُميّز كاتباً عن آخر، فإذا وعاها هذا عمل بموجبها، وإن لم يكن واعياً إياها بقي على سطح التعبير دون جماليا عمقه وجمال دلالاته. فكل حرف زهرة، والكلمة باقة زهر، ولا يَحق لأديب أن يدهس حرفاً أو يهمل حرفاً أو يستعمل حرفاً بدون قصد أو انتباه، وإلاّ كانت الحروف ومنها كلماته مُجرد وسيلة لبلوغ المعنى، فيما الحروف ومنها الكلمات غاية للأديب في ذاتها، كغاية المعنى. والأدب العالي، شِعرُه والنثر، هو الذي يدرك فارسُه أن الغاية هي حروف الكلمة ومعناها معاً، وبهذه الغاية المزدوجة يبلغ الوسيلة التي ليس لها إلاّ هدف واحد: إمتاعُ القارئ.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*