السبت 29 كانون الثاني 2005
-392-
لم تستقبلني يوماً إلاّ بالسخرية الطالعة من عمقك الهادر بالحزن الحافي، ولم ألتقِكَ يوماً إلاّ وأنتَ ساخِر. كأنّك تُخفي دائماً، وراء تلك الضحكة العالية، كوامن خافتة لم تشأْ لها تعبيراً في كَلِمٍ أو في رُقشة، فغلّفتَها بالسخرية.
غير أنّ فيك بركاناً، من تفجُّر الإبداع التشكيلي، غالباً ما كان يخون حرصك على الإخفاء، فتتشظّى أحزانُك ألواناً، وتتناثر وِحدتُك خطوطاً، وتنفلش لحظاتُك الحميمةُ رمادية أو سوداء خلف مناخ اللوحة أو شكل المنحوتة.
لهذا، ولكثرة ما عرفْتُكَ ساخراً من الحياة، صَعُبَ عليَّ أمس أن أصعدَ إلى عاليه أُودّعك الوداع الأخير. وكيف أصدّق أنك راحل، أنت الْمُحِبُّ الحياةَ حتى النقطة الأخيرة من ثمالة كأس الحياة؟ كيف أُصَدّق أنك غائب، أنتَ الحاضر الماثل في الوسط التشكيلي اللبناني منذ نصف قرنٍ شامخاً في عنادٍ المؤمن بفنه العالي، وشامخاً في صلابة الجبل الذي لا يرتضي إلاّ الحقيقة، وشامخاً في عمق ثقيفٍ يندر أن يجاريك فيه مبدع.
أيها الساخر بالكلمة، والساخر بضربة الريشة، والساخر بالرُّقشةِ خطاً ولوناً ومساحةَ تعبير، أيها الساخرُ بالنبرةِ والضحكة والإجابات المقذعة (مرةً من مرارة وأخرى من حرارة)، ظلَلْتَ تسخر من الحياة حتّى غلبكَ الموت بسخرية الغياب، وفَصَلَ حضورك عن هذه الحياة. فهل كنتَ تحسب حساب الموت؟ وأين سخريتُك منه تقصيه عنك؟ أم تراه إيمانك أن “الموت حق” أقصاك عن سخريتك منه؟
وهذه العصا في سنواتك الأخيرة، أكانت لكي تتوكأ عليها أم على سنوات عمرٍ قضيتَهُ في صحبة الريشة واللون، في صحبة الإزميل والحجر، في صحبة وَساعةٍ أفسحتَ لها في حياتك للّهوِ إبداعاً وللضحكةِ فُرجةَ تعبير، فكلما انهلْتَ على الريشة
أو الإزميل، أطلعْتَ الفُرجةَ تُحفة، واللوحةَ تُحفة، والمنحوتةَ تُحفة، فنَحنُ مَعك في رحلةِ بدعٍ خلاّقٍ من تُحفةٍ إلى تُحفة؟
لذلك، أيها الممتلئ حياةً أوسعَ من الحياة، صعُب عليّ أمس أن أصعد إلى عاليه وأراكَ مَمدداً وجهاً بلا روح، وجسداً بلا حياة، وأنت لولبٌ رائد بين الكبار، رفيق زملائك المكرّسين، نَهضْتَ معهم بالفنِّ التشكيلي في لبنان، أسستَ معهم نَهضةَ هذا الفن، راسماً معهم ملامِحها، ناحتاً معهم عصرها الذهبيّ. وإذ تغادر اليوم لاحقاً بِهم، تترك بعدك إرثاً تشكيلياً غنياً يشكّلُ ركيزةً عظمى في صرح عمارة الريشة والإزميل في لبنان، ومن لبنان إلى العالم، وتترك بعدكَ لا فراغاً وحسب، بل صحراءَ انتظارِ أن يَجيء بعدكَ من يُعشِبُ هذه الصحراء بدعاً على مستوى ما كان إبداعُك.
فيا عارف، حين جئتُك أمس الى عاليه أودعك الوداع الأخير، حاملاً صوتك في عينيّ، وسخريتَك في بالي، للمرة الأولىلم تستقبلني بصوتك المُحِبّ وطعقةِ سخريتك القافيَّة. لذا، وأنا العارف أنّك اليوم ولدتَ في مكانٍ آخر، سألتُك أن تأخذ بِيَدي وأنا أودِّعُ جسدك اليوم، وتُطَمْئنَني عليك حيثُما أنتَ منذ اليوم، حتّى، كلّما زرتُكَ في خيالي، تظلّ أنتَ أنت، بِمحبتِك النقية وصداقتك الغنيّة، وتلك الضحكةِ التي كم كنت تُخفي وراءها مرارةَ الأيام.
فعسى أيّامك بعد اليوم تشعُّ بنبضةِ الحرارة دون قبضةِ المرارة، أيها الطاعنُ في الغياب عن “هُنا” والحضور في “هُنا” آخَر.