الاثنين 29 تشرين الثاني 2004
-383-
عن ميشال شيحا قولُه: “ليس للبنان ما يعطيه سوى إبداع بنيه”. كأنه بهذا اختصر دور لبنان في هذا الشرق، دولة ضئيلة مساحةً وسكاناً، لا نفطَ فيها ولا أراضيَ زراعيةً ولا صناعاتٍ ثقيلةً أو متوسطة ولا معادن ولا غازاً طبيعياً ولا خدماتٍ سياحية غير عادية. إنْ هو إلاّ واحة مُميّزة في هذا الشرق، منارتُها أبناؤُها الذين، على ضآلتهم، أطلقوا جامعة هذا الشرق ومستشفاه ومطبعته وجريدته وكل أساس فاعل في نهضة الشرق رمى الى الإبداع الخلاّق فكان له اللبنانيون.
هذه هي الميزة التفاضلية التي يعرفها اللبنانيون المتنوّرون ويجهلها كثيرون من “بيت بو سياسة” فيروحون يتباكون على صغر لبنان ويستجْدون دعامة له من هنا وهناك كأنه قاصر ويحتاج الى خالة له يظلّ متمسكاً بأهداب ثيابها فلا يضيع.
ميزتنا التفاضلية تبدأ من عطية الله (الطبيعة الرائعة وثرواتها الغنيّة) وتُكمل في عطايا اللبنانيين (التاريخ، الإنسان، التراث، ومروحة واسعة من الإبداع الثقافي). فكيف وظّف حكامنا الأشاوس طاقة اللبناني المبدع في استقطاب الآخرين إلينا عوض إرسال طاقاتنا الى الآخرين؟ هذا هو دور الحضور الثقافي اللبناني (الرسمي) الذي لم يجد له طريقاً بعد الى التنفيذ. وهذا هو اقتصاد المعرفة الذي يتميّز به لبنان والذي يمكنه أن يشكّل موارد اقتصادية هائلةً يبدو قزماً إزاءها هذا المعروف اليوم بـ”الاقتصاد الوطني اللبناني” القائم على أسس سياسية قاصرة وعاجزة ولا نتميّز فيها بشيء عن سوانا.
إن اقتصاد المعرفة اللبناني هو القائم على الفكر اللبناني المبدع وطاقات فكرية لبنانية خلاقة هي ثرواتُنا الحقيقية التي نتميّز بها عن سوانا، والتي لم يُحسن ساستنا استغلالها بعدُ لنهضة لبنان، خشيةً منهم على كراسيهم ومكاسبهم ومغانمهم وسقوطهم أمام أزلامهم ومحاسيبهم لأنهم يعتبرون السياسة أن يسوسوا الناس بينما السياسة هي فن صنع الأوطان ورسم مستقبلها الوسيط والبعيد. فالسياسي الكبير هو الذي يجعل وطنه لا أقل من قصيدة، والذي يعمل على الأسس المجتمعية لا الوطنية ولا القومية ولا الفئوية، والذي يربط أبناء شعبه بشعاعات المستقبل لا الذي يعنكبُهم محنّطين بخيوط الحاضر. وعندها يفرض فرضاً كتابة تاريخ موحّد لبلاده، من دون تحججات واهية. وإذا كانت فرنسا وألمانيا بدأتا التحضير لكتابة تاريخ مشترك بينهما (متجاوزتين الحروب كمظهر عداء) تمهيداً لوضع تاريخ مشترك لأوروبا، فالأحرى عندنا بحاكم يفرض التاريخ اللبناني على أسس مجتمعية علمية لا علاقة لها بانضمام هنا وانفصال هناك، رغم ما شهدت محطاتٌ كثيرةٌ في تاريخ لبنان من حكام عليه استسلموا واستزلموا فلم تكن لهم الكلمة ولا لشعبهم بل لمن يمدون لهم اليد أو الأوامر.
هذه هي الثقافة البنّاءة الحقيقية التي يجدر بدولتنا الشوساء أن تعمل عليها من خلال وزارة ثقافة لا تسخو عليها سنوياً إلا بميزانية ضحلة تدفع معاشات الموظفين والمتعاقدين والمتعاملين، والقليل الباقي يتوزّع “إعاشات” على هيئات وأفراد ليسوا جميعاً على مستوى العمل الثقافي المطلوب لتنصيع صورة لبنان الثقافية وتحويل القطاع الثقافي قطاعاً منتجاً للدولة عوض أن يكون قطاع استجداء من الدولة يجعل من المثقفين المبدعين شحَّاذين على أبواب الوزارة.
بلى: الثقافة قطاع منتج في لبنان إذا تولاّه أبناء للإبداع الثقافي يطلقون ورشاً ثقافية منتجة، ويجعلون من وزارة الثقافة “سيادية” و”رئيسية” لا هامشية ثانوية تعطى حصة ترضية طائفية أو سياسية أو مَحاسيبية.