السبت 4 كانون الأول 2004
-384-
منذ اضطلع بدراسة التاريخ، صمَّم أن يتعهّد الكشف عن صفحات مجهولة في تاريخنا السحيق. لذلك جاء معمَّقاً اشتغالُه على أطروحته (1991) في السوربون “الديانة الفينيقية في صُور” (نال عليها درجة “مُشَرِّف جدّاً” مع تهنئة اللجنة والتنويه بأهمية النص وضرورة طباعته) وعيّنتْه الجامعة “قارئ شرف” في مكتبة الدراسات الساميّة لدى الـ”كولّيج دو فرانْس”. وكان (1982) كتبَ أطروحة الماجستير عن “البانتيون الصُّوري” وبدت له مدينتنا الغالية صُوْر رائدة الانتشار الفينيقي منذ الألف الأول (ق.م.) في حوض المتوسّط بقسميه الشرقي والغربي.
ومن خلال أبحاثه الدقيقة، تأكّد له أن الديانة الفينيقية حضارة كاملة رفدَت العقل الديني في الشرق بطقوس مختلفة وعادات شعبية. ووجد أن الأبحاث العلمية عن صُوْر توقّفت عام 1963 (منذ دراسة هنري سيريغ عن الديانة الفينيقية في صُوْر زمن اليونان). لذلك أخذ يبحث في صُوْر تاريخاً وجغرافيا وآلهة، ولاحق تطوّر الاكتشافات الأثرية والنظريات العلمية التي صدرت في الغرب عن مدينتنا الخالدة. وغاص على المكتشفات العائدة الى صُوْر في منطقتها التاريخية بين نهر الدامور وجنوب عكا، وحقّق في ما صدر عنها من مغالطات مدسوسة في الكتابات التوراتية والتلمودية واليهودية.
وبعودته الى تاريخ صوْر في الألف الثالث (ق.م.)، ومراجعة مصادر العصرين البرونزي والحديدي، كشف دور صوْر السياسي في أحداث المتوسط من صراع الدولة الفرعونية في مصر مع دول سورية وبلاد ما بين النهرين (الحثية والأشورية والبابلية والفارسية) حتى الرومان واليونان. وظهر له دور صُوْر البرّية التي اتّحدت مع صيدا في مملكة واحدة (بين القرنين العاشر والسابع ق.م.) فامتدّ نفوذها من نهر الدامور حتى دلتا النيل. وتمكَّن من تحديد موقع الإله ملقرت، وإبراز الأهمية الحيوية الفائقة لوجود الفينيقيين على طول الشاطئ من صُوْر حتى عريش مصر.
ودرس تسعة من آلهة صُوْر: إيل، ملقرت، أشمون، بعل شميم، بعل ملاجي، بعل صافون، بعل حامون، عشترت، ومليكعشترت، على ضوء النصوص الأوغاريتية والآرامية والفينيقية بلوغاً الى اليونانية واللاتينية. ومن هذا التوغُّل في النصوص خرج بأنّ ملقرت (ملك قرت = سيّد أو ملك المدينة) هو إله صُوْر الأكبر وإله المغامرة الفينيقية للانتشار الفينيقي. وتعمّق أكثر فوجد في اتفاق السلام بين صوْر والأشوريين ذكْر الإله “بيت إيل”، وفي حفريات صربتا (الصرفند) عبادة للإلهة تانيت، ولدى فيلون الجبيلي نصاً عن شخصية “أوزوس” الميتولوجية مؤسس صوْر البحرية.
وبنتيجة دراساته الكتابات والنقود المكتشفة في صور وما فيها من رسوم تعبيرية للتراث الصُّوْري، رسم خمس خرائط تاريخية مفصَّلة وأخرج 18 لوحة ذات 36 رسماً أثرياً.
أمام هذه الثروة العلمية، يستنجد بعبارة إرنست رينان (عام 1860) “أحفروا في أرض فينيقيا القديمة، فلا أحد يعلم أية كنوزٍ تخبّئُ هذه الأرض الغنيّة” (الآثار الكاملة – الجزء الأول – 1947 – ص 705)، وبعبارته الأُخرى في كتابه “بعثة فيـنـيقيا” (1864): “لا أظن أنّ في التاريخ مدينةً عظيمة لعبت دوراً قيادياً عبر العصور، مثل مدينة صُوْر”، وبعبارة النبي حزقيال “ستزولين يا صُوْر عن وجه الأرض وسيبحثون عنكِ كثيراً”. وربما لذلك كتب البحاثة إرنست وِيل: “مدينة صور لم تَبُح بعد، حتى اليوم، بجميع ما عندها من أسرار” (مجلة “بيريتوس” – المجلد العاشر – 1952/1953 – ص 11).
الدكتور أنطوان القسيس (أستاذ التاريخ القديم في الجامعة اللبنانية)، كاشف هذه الإضاءات البهية على تاريخنا في صُوْر، يَسلَم قلمُهُ اللبناني النقيّ.