375: نيويورك من نيويورك غير نيويورك من بيروت

السبت 2 تشرين الأول 2004
والدورف أستوريا – نيويورك -375-
من غرفتي العالية (في الطابق 35 من هذا الفندق النيويوركي) أُطِلُّ على مبنى الأُمم المتحدة، فأرى أعضاء الوفود الرسمية يصطفّون على بوابة الباحة الخارجية، متساوين قيمةً ودخولاً، مقْبلين على معالجة الأمور المحليّة والدولية برَويّةٍ وتُؤَدة، فيما على شاشة كومبيوتْرِيَ المحمول أقرأُ عناوين “النهار” حول “صراخ” السياسيين اللبنانيين و”احتجاجاتهم” و”تحليلاتهم” حول القرار 1559، و”توجيهاتهم” الى الدول الكبرى (وفي طليعتها الولايات المتحدة) و”تنظيراتهم” في ما عليها أن تفعل وكيف عليها أن تتصرّف حيال لبنان. وأُتابع (من كومبيوتْرِيَ المحمول كذلك) أخبار “صوت لبنان” بالإنترنت فأسمع، في كل نشرة وموجز، كيف يتهافت السياسيون على التصريح وإبداء الرأْي، فأبتسم إشفاقاً وسخريةً مِمَّن انفتح لهم البازار (صحافياً وإذاعياً وتلفزيونياً) كي يَخرجوا من نفتالين إفلاسهم و”يُدلوا” بآراء يعرفون سلفاً أنها كلام مَحلّيّ استهلاكي لا تأْثير له على أحد خارجَ لبنان، ولا يصل الى هؤلاء الذين أراهم من نافذتي العالية في الفندق يدخلون مبنى الأُمم المتحدة ليبحثوا في شؤون دولية كبرى من شأن معظمها أن يغيّر في مسار العالَم، انطلاقاً من مصالح دوَلهم ومستقبل العالَم، مستندين الى تقارير مُخابراتية ودبلوماسية وسياسية لن يغيّر فيها حرفاً واحداً تصريحٌ يرتجله سياسيٌّ لبناني في زاروب منطقته.
بلى: معاينةُ نيويورك من نيويورك، غير مُخاطبتها من بيروت. ففي بيروت جعجعةٌ وصخب وضجيج ونقيق وقرقعة، وفي نيويورك هدوءٌ ومسؤوليةٌ واتّخاذُ قرارات لن يغيّر فيها رأْيُ سياسيٍّ من بيروت إن لم يكن هذا الرأْي مبنياً على معطيات حقيقيّة رصينة، غير انفعالية، وغير استهلاكية لإرضاء جهةٍ أو لدفع فاتورةٍ الى جهةٍ أو استزلاماً لأسيادٍ في أكثر من جهة.
وبينما السياسيون في لبنان (معظمُهم، كي لا أُعمّم، لأن معظمهم عاطلون عن العمل مشغولون بالحكي) ينتظرون حدَثاً يحصل، محلياً أو خارجياً (ولو كان حادثَ وفاة) حتى يتسابقوا الى التصريح والإدلاء بآراء يتّصلون لأجلها بالصحف والإذاعات وما يتيسّر لهم من وكالات أنباء كي “يطالع” المواطنون الأعزاء تصاريحهم في اليوم التالي، أرى السياسيين هنا يعملون في هيبةٍ وصمْت، يصرّحون إذا اقتضى الوضع ذلك، وإلاّ ظلوا على هيبتهم وصمتهم، لا يتحركون إلاّ وفي يدهم ملفّات درسوها وجاؤوا يناقشونها، فلا ارتجال في تصريح، ولا انفعال في موقف، ولا ثرثرة من أجل ظهور أسمائهم.
صغارٌ صغارٌ، معظم هؤلاء الذين عندنا، ويعرفون (والأدهى إذا كانوا لا يعرفون) أنهم تماماً كذاك الديك المغرور المقتنِع جداً بأن صياحه هو الذي يَجعل الفجر يُشرق. هكذا هم: يُدلون بتصاريح وتنظيرات ظناً منهم أنهم بها يغيّرون في قرارات الدول الكبرى لرسم مسار لبنان، بينما سياستُه تُحاك في مطبخ تلك الدول استناداً الى تقارير دبلوماسييها وموفديها، تنسيقاً مع ذوي المصداقية والرصانة من سياسيينا ومسؤولينا في لبنان، وما أقلّهم!
مصيبتُنا أننا ما زلنا، منذ الاستقلال حتى اليوم، نشهد على ساحتنا المحلية سياسيين لا يعرفون أنهم كذاك الديك المغرور، أو كتلك النعامة التي تغرز رأْسها في الرمل ظناً منها أنَّ ما تقوله مسموعٌ ومعمول به، وتصمُّ أذنيها عن ضحكاتٍ ساخرة وابتساماتٍ صامتة هازئة على شفاه مَن يعرفون أنّ ما يقال ليس سوى كلام عابر من صغار عابرين.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*