السبت 12 تشؤين الأول 2004
مانهاتن – نيويورك – 6 7 3 –
رافقتُ صديقي السفير الدكتور عبدالرحمن الجُدَيع (القنصل السعودي العام في نيويورك) الى مكتبة “بارنْز إنْد نوبلْز” (عند زاوية الشارع 53 والجادة الثالثة) وهي عريقة (ترقى الى 1873) وضخمة يَلزمها نهار كامل للتجوال فيها. جُلْتُ في بعض أروقتها أتفقَّد الكُتب مصنَّفَةً في أجنحة متخصّصة بِحسب الأنواع التأليفية، فعاينْتُ عشراتٍ من الكتب الصادرة حديثاً لا يقلُّ نَحيلُها عن 500 صفحة (قطعاً وسطاً) ما يبلغ “الرطلين” على قول مارون عبود عن الكتب الدسمة.
بعد نحو الساعتين، زعقَت حسناء في مكبر الصوت أنّ “وقت الزيارة انتهى، وعلى جميع مَن في الداخل التوجُّه الى الصندوق للدفع والانصراف”. فلم أَرَ حولي إلا عشرات الرواد يتهافتون على بعض الأجنحة لاقتناء كتب إضافية ثم يهرولون الى الصندوق للدفع (وقوفاً، طبعاً، في صف طويل لا يتجاوزونه).
عند الباب، رأيتُ امرأةً ترجو الحارس ملحاحةً أن يسمح لها بالدخول، وهو يجيبها بكلّ فظاظة أنّ الوقت انتهى، فلتأْتِ في الغد. وحين خرجنا الى الشارع التفتُّ الى الدكتور الجديع أسأله إن كان في العالم العربي الواسع (ذي الثلاثمئة مليون وقد يكونون زادوا عند كتابة هذه السطور) يرى حشداً كهذا في مكتبة، أو مواطناً عربياً يرجو الحارس أن يسمح له بالدخول لا لقطع تذكرة سينما، ولا للدخول الى مطعم، ولا لولوج كازينو قمار، بل للدخول الى مكتبة يشتري كتاباً.
لم يُجِبْني صديقي الدبلوماسي جداً، فحصرْتُ تفكيري في لبنان، وأجبتُ عن سؤالي بأنّ جزءاً صغيراً جداً من هذا الحشد (عدا مواسم معارض الكتب) لا يُمكن أن يَجتمع عندنا في مكتبة عادية وفي يوم عادي.
الشاهدُ من كلامي أنّ أكثر الناس عندنا لا يقرأُون. معظمهم مُنتحلو صفة الثقافة، مغرورون لا يُطالعون، يستمدُّون ثقافتهم من برامج تلفزيونية تافهة فتكون لهم حديثاً في المجتمع، ويندر بينهم من يتحلَّى بزادٍ ثقافي رصين. ولذا تقتل الكثيرين من شعبنا ظاهرةُ “الشو-أوف” (التشاوف) والغرور وادّعاء الثقافة ولا ثقافة، فيخلطون بين حَمَلة الشهادة المتعلمين، والمثقفين المتحلّين بالزاد الأدبي أو الموسيقي أو الفني أو العلمي أو التكنولوجي، وتستمر الفوضى سائدة في صفوفهم على مسطرة الفوضى السياسية والاقتصادية والاجتماعية في بلادنا، ولا يدرون أنّ هذه الجهالة الجهلاء بالذات (لا المعايير الصناعية والزراعية) هي التي تَجعلنا نبقى من فصائل العالم الثالث، وتُبقينا مَحطّ إشفاق وسخرية لدى العالم الأَوّل.
في الأمثلة الصينية أنّ الضفدعة في قعر البئر تَسمع أصداء من نقيقها تتماوج حولها في البئر الفارغة فتظنّ نقيقَها يبلغ العالم كلّه، وتنظر الى فُتحة البئر فوقها فتظنّ فُتحة البئر هي شَساعة الفضاء. وحين تبدأ البئر بالامتلاء، ومستوى الضفدعة بالارتفاع، يبدأ تماوج نقيقها يضعف، والفضاء يتّسع عن فتحة البئر كلما علت صوبها أكثر. ومتى امتلأت البئر وبلغت هي أعلاها، تكتشف أن نقيقها بات بلا صدى لأنه يتجه خارج البئر، وأنّ الفضاء أوسع بكثير مما كانت تظنه وهي في قعر البئر.
أَلاَ قليلاً من التواضع يا أبناءَ شعبنا الأشاوس، واخلعوا عن وجوهكم أقنعة التشاوُف (“الشّو- أوف”)، وافهموا أنّ العالَم أوسع بكثير من أصداء نقيقكم حولكم، ومن هذه الفتحة التي ترونها فوقكم من قعر البئر وتظنُّون أنّها شساعة الفضاء.