السبت 25 أيلول 2004
بُحَيْرَة الليمون- فلوريدا – 4 7 3 –
تندهُني عيناكَ الْمُغْمَضَتان من طفولة، وأنتَ ما زلتَ في أسبوعِك السادس. فَـبِـمَ أُجيب؟
لا أنتَ تعرف هذا الواقفَ اليومَ أمامَكَ (وربّما لن تعرفه ولو كبرْت)، وأنا أعرف أنني لن أَسعَدَ بِحفيدٍ يتابعُني وينمو على كلماتي. فبيننا أطلسِيٌّ يغيّر ما لا يتغيّر: أنت في وطنٍ كبيرٍ ذي دولةٍ كبرى تقود اليوم سياسةَ العالَم، وأنا من دولةٍ صغيرةٍ لوطنٍ كبيرٍ أعطى عصَبَ حضارة العالَم.
وكيف لكَ أن تعرفَني، وأُمُّك (رغم طيب نواياها) أميركيةٌ جداً ولا تعرفني كي تجعلك تعرفني، وأبوك (الذي يحمل اسمي الكامل: هنري زغيب) لم يعُدْ يقرأُني لأنه، منذ عشرين عاماً، تأَمْرَكَ مدرسةً وجامعةً ومهنةَ عمرٍ ناجحةً فلم تَعُد له علاقةٌ باللغة التي نشأَ بها على أدب أبيه! ومهما حدّثَك عني فسأبقى، في بالِك، رجل الحكاية. وأبوكَ، يا حبيبي الطفل، أخذتْهُ أميركا باكراً في أول صباه (14 سنة) ليدرسَ فيها ويتخرّجَ الى حقل الأعمال الكبرى ويعطي عمره لأميركا فتعطيه رخاءَ عيشةٍ لا يوفّره له وطن أبيه، مع ما في قلبه من حنينٍ جميلٍ الى مغاني الوطن الذي وُلِد فيه. غير أنه لن يعطيك هذا الحنين. فأميركا تُجفِّفُ الحنان والنوستالجيا وحرارة الروابط العائلية. ومن يظلُّ يملك الحنين يَملك الحنان أيضاً، وحنانُ أبيك سيكون لك، ومن خلاله سيحدثكَ عن أبيه وعن وطنه. أما أنا فكلُّ حظي منك، أو حظِّك مني: زياراتٌ موسميةٌ أقوم بها إليك في أميركا، وأقلُّ منها أخرى تقوم بها مع والدَيك الى بلاد جدّك وأبيك، تأتيها زائراً وتغادرُها بدون وداع، لا أنتَ تُحِسُّ بتراثها ولا هي تعطيك انشداداً إليها! الزائرُ سائحٌ ولو عند أهل أبيه. والسائح يَحمل معه الذكريات من البلاد لا الحنين إليها. فانتسابه يظلُّ لبلاده، وانتماؤه دائماً الى لغته وأبناء لغته من أهل وأَتراب.
يا حبيبي، أعرف أنك لن تقرأ يوماً هذه القطعة. قد يترجمها لك أحد، فاحفظْها لـ”ذاتِ يومٍ” بين أوراقك. على أنني لأجلك، وأنا في هذه اللحظة واقفٌ أمامكَ وعيناكَ مغمضتان من طفولة الستة الأسابيع، أتمنى لو انني كنتُ رسّاماً أو نَحّاتاً أو موسيقياً، أملك وسيلةَ تعبيرٍ عالَميةً يتلقّاها كل الناس في كل مكان، كي تتابعني بها حين تكبر. لكنني شاعرٌ، وسيلةُ تعبيري لغةٌ ليست لغتك، وأعرف أنك لن تتعلّمها، وإذا كاغيت يوماً ببعض مفرداتها فلكي تكلّم أباك أو تفهم منه، ولن تمتلكها يوماً لتستطيع أن تقرأ بها كتابات جدّك. وأعرف أنك لن تقرأَني إلاّ حين أُترجمُني الى لغتك، أو أكتب في لغتك التي، مهما أنا أجدتُها، لن تكون لغة قصائدي وكتاباتي التي أحلم أن تقرأني بها.
غير أنّ عزائي، وأنتَ تندهُني اليوم بعينيكَ الْمُغْمَضَتَين من طفولة وكلّما ستندهني عيناكَ غداً حين تكبر، أن تكون بارّاً بوالدَيك: ولاءً لِوطن أُمّك، ووفاءً لِجذور أبيك.
أما وصيتي لك حفيداً، يا حبيبي الأزغب اليوم ولو انك لن تقرأَني ولا في يوم، فإذا قرأتَ عني ذات يوم في كتابٍ أو مَجلّة، أن تقول في قلبك: “هذا جدي الذي أحمل اسمه في نصف اسمي (جيك هنري زغيب) ولا أعرف عنه سوى أنه جدّي، ولا أقرأُه بل أقرأُ عنه أنه كاتبٌ من بلدٍ، هناك خلف الأطلسي، بعيدٍ وجميلٍ اسمه… “ليبانون”!”.