السبت 18 أيلول 2004
بُحَيْرَة الليمون- فلوريدا -373-
أعود الى “بُحيرة الليمون” بعد غياب عشر سنوات (1994-2004) لأرى التطوُّر والعمران في اطّراد يغمران مدينةً ثانوية كلُّ ما فيها مرتَّبٌ منسَّقٌ منظَّمٌ، مع أنها في أدنى لوائح الْمدن الأميركية أهميةً، لكنها كسائر المدن والبلدات، صغيرتِها والكبيرة، تتساوى باحترام النظام والخضوع لقوانين السير والوقوف في الصف ودفع الضرائب وفواتير الدولة.
أقول هذا الأمر على بديهيته هنا، وأفكّر بما عندنا فلا يعود بديهياً أن أرى المواطنين في وادٍ (أو دهليز، أو جحيم) والدولة في عالم آخر تتعايش فيه المحسوبية والعشائرية والزبائنية والكيدية والإقطاعية والتّرُوْيْكيّة والامتيازات السياسية.
في أيام الحرب كنا نقرأ على الحيطان “من هنا مرّ…”، ويكون المقصود أحد الرعاع من حثالة البشر. وهنا، في “بُحيرة الليمون” وفي معظم فلوريدا (كما كنا نقرأُ في صحافتنا خلال الأيام الأخيرة) مقولة “من هنا مرّ إعصار…”. فهذه المنطقة (“بُحيرة الليمون” وضواحيها القريبة والمحيطة) عانت من غضب الطبيعة الأهوج المجنون الجحيمي ما لم تشهدْه (بحسب الصحافة وأهالي المنطقة) منذ عشرات السنين. فالإعصار الأوّل (“تشارلي”) ضربها قبل أسابيع، والإعصار الثاني (“فرنسِسْ”) تلاه بعد أيام، والإعصار الثالث (“إيفان الرهيب”) ضربها مطلع هذا الأسبوع، وها هي تترقّب (منذ اليوم ولمطلع الأسبوع المقبل) إعصاراً رابعاً (“جين”) ترجّح المراصد هنا أن يكون الأقوى دماراً على الإطلاق.
الشاهد من كلامي ليس الإعصار أو كيفية التحضير لمواجهته أو التهيُّؤ له أو إحصاء ضحاياه أو معاينة الدمار الرهيب الذي خلّفه، بقدْرِما هو أمر مزدوج. الأول: التحذيرات المتلاحقة في الإذاعات والتلفزيونات ناقلةً على دورة الساعة آخر معلومات المراصد الارتقابية (عدا تنبيه المواطنين الى زيارة مواقع المراصد على الإنترنت لمتابعة زحف الإعصار)، والأمر الآخَر (وهو الأَهَمّ) جهوزية الدولة (أُكرِّر: جهوزية الدولة) لورشة الإصلاح والترميم والإنقاذ وإعادة المدينة الى ما كانت عليه. فبعد كل إعصار وما يُخلّفه من دمار هائل مُرعب في لافتات أسماء الشوارع وفي انقطاع التيار الكهربائي وتَحَطُّم هوائيات الاتصالات، كانت فِرَقُ الصيانة تبادر فوراً الى رفع الأشجار عن الطرقات، والى التزفيت وإعادة الكهرباء والهواتف، مع أن المواطنين يعرفون (والدولة عارفة) أن إعصاراً آخَر سوف يأتي، أَشدَّ هولاً ورُعباً ودماراً. غير أنّ الدولة الحاضرة الجاهزة لا تتّكل على الـ”رُبّما” و”الْمَعْلَيْشِيّة” بل تبادر الى تنبيه مواطنيها وإنقاذهم، لأنّ الدولة هنا ليست مزارع يتقاسمها رجال سياسة، بل هي دولة حازمة حاسمة يملكها الشعب، تأمر موظَّفيها وعمالها الذين يتقاضون رواتبهم من مال المواطنين أن يخدموا المواطنين وينقذوهم ويساعدوهم ويعيدوا الى مدنهم الحياة الطبيعية التي يدفعون الضرائب كي يهنأوا بها، ومن حقّهم على الدولة أن تمدهم بالخدمات مقابل ضرائبها عليهم، لا أن تسرق ضرائبهم وتتركهم بدون خدمات.
أكتب هذه الأسطر وأنا أرى أمامي من النافذة (في “بُحيرة الليمون”) عمال الصيانة يعملون في الشارع، عارفين أن إعصار “جين” بات على الأبواب. ومع ذلك يعملون. إنها الدولة التي تبسط هيبتها بجميع أشكال الهيبة. إنها الدولة التي (بصرف النظر عن سياستها في بلادنا) تثبت حزمها الإداري وحسمها الخدماتي مقابل ضرائبها على المواطنين. إنها الدولة التي لا تسوسُها مزارع وقبائل وعشائر ومحسوبيات “أجهزة” سياسية.