السبت 11 أيلول 2004
برشلونا – 2 7 3 –
من أبلغ ما صدرَ عن جلسات مؤتمر الأونسكو في برشلونه “أبْجدياتٌ جديدة لِجهالاتٍ جديدة- تَعَلُّمُ العيش معاً في ساعة العولَمة” عبارةُ “ليس الوضعُ صراعَ حضارات بل صراع جهالات”. ففي مَحاور المؤتمر الأربعة (جهل التَّنَوُّع، جهل الآخَر، جهل الأخلاقيات، جهل الْمستقبل) كان التركيز على أنّ الحَلّ هو في معرفة الآخَر والتَّعَرُّف إليه فالاعتراف به وباختلافه ومُحاورته باحترام هذا الاختلاف. وكان محمد أركون بليغاً في تشخيصه أنّ الحاصل اليوم هو “انتشار جهالاتٍ يُمَأْسِسُها الحكّامُ عمداً كي يُحْكِموا سيطرتهم على شعوبهم”. هكذا كشفت “عولَمةُ” القمم وديانَ جهالات تحتاج أبجدياتٍ جديدة تعالجها كي تبلغ مستوى مشتركاً من العيش و”التعايش”. فالعيش المشترك يكون بين دول تتجاور أو تتحاور، والتعايش يكون بين شعوب مختلفة الأعراق والمشارب على امتداد الكرة الأرضية.
من هنا مَسْكَنةُ الطرح في لبنان، حين يروح معظم “بيت بو سياسة” عندنا وبعض رجال الطوائف يتحدّثون عن التعايش والعيش المشترك في صفوف الشعب اللبناني الواحد، كأنهم – جهلاً أو عمداً – لا يعترفون بوحدة هذا الشعب الذي تجمعه حياةٌ واحدة ويضمه عيش واحد، وهي فرادةٌ تُميِّزه كشعب متنوّع الثقافات متعدد المعتقدات (ولو انها تؤول جميعاً الى رب العالمين) لكن معظم سياسييه هم أكثرُ مَن فيه جهلاً بواقعه الأنتروبولوجي والسوسيولوجي.
وطوال جلسات المؤتمر التسع، هنا في برشلونا، لم يغِب عن بالي كم انّ لبنان (على صغر مساحته وضآلة أهله) هو الواحة النموذجية للّقاء والتعددية الثقافية والدينية والمذهبية والعادات والتقاليد، لكنّ مصالح سياسييه تحول دون قيام مُواطَنَةٍ لبنانية مبنيّةٍ على وعي الآخَر ومُحاورته، إذ يعيقُها المرورُ بزعماء العشيرة والقبيلة والمزرعة، وتعطّلها شبكة الزبائنية المغسول بها دماغُ قسمٍ جاهل من الشعب ينقاد مستزلماً فاغراً أو مستسلماً صاغراً الى زعماء يهمهم تجهيل الفرد فيغلقون أمامه أفقَ أن يكون مواطناً عالمياً من لبنان عوض أن يكون مواطناً من لبنان لا يحس به العالم.
والحوادث المأساوية التي حصلت عندنا بسبب محاولات “الانفتاح على الآخر”، لا تزال تحول دون ديمقراطية عملية ومواطنية فاعلة لو تحقَّقتا لكانتا تحولان دون “تأبـيد” أهل الحكم في مناصبهم أياً تكن كراسيهم.
أهمية مؤتمر الأونسكو في برشلونا أنه كشف أفقاً رحيباً على توق الشعوب (بعد 11 أيلول) الى رفض العولمة حين تعني الهيمنة، وعلى إرادةِ القاعدة رفْضَ القمة حين أهل القمة مصلحجيون لا قادة تنوير، وعلى اقتبال التَنَوُّع الثقافي والحضاري في مواجهة إحادية ظلامية تَجهيلية لا تعيش إلاّ في استفراد الآخَر وإلغاء حلمه باللقاء والحوار. فالخلاص هو في التوحُّد الجماعي، على ما قاله البرازيلي دون إلْدِر كامارا: “حين تحلم وحدك تبقى في الحلم، وحين تحلمون جماعياً يبدأ الواقع”.
ليس الْمهم إيْجاد اللغة الْمشترَكة بل بلوغ مضمون فيها مشترك يُبنى على أساسه الحوار بيننا وبين الآخَر، وأن يكون لدينا ما نقوله للآخَر، ولدى الآخَر ما يقوله لنا، فالكلام ليس في حجمه ولا في لغته بل في حصائله ونهائياته. لذا، من أبلغ ما سمعتُهُ في هذا المؤتمر: روايةٌ عن غراهام بِلّ (مكتشف الهاتف) حين جاء مَن يبشِّرُهُ بإنْجاز الربط الهاتفي بين أميركا وأوروبا، فكان جوابه الفوري: “ولكنْ… هل لديهم ما حوله يتحاوَرون”؟