السبت 28 آب 2004
-1 7 3 –
لم يعُد جديداً رأْيي في أنّ عمودية كتابة النثر الْمُرسَل لا تَجعلُه “شِعراً”، ولا تَجعل مقطوعتَه “قصيدة”، ولا تُسَمّي صاحبها “شاعراً” ولو تلطّى بكلمة “الشعر” أو “القصيدة”، فهو يُهين النثر ولا يدخل في حرم الشعر.
ولكنّ أقسى من ذاك الرأْي، رأيي في مَن يرتكبون النظم ويدّعونه “شِعراً”، ونصوصهم ليست سوى نثر سيِّئ.
وتكون الطامة الكبرى ما يَحوطنا اليوم من كلامٍ مُرسَلٍ نثراً سيّئاً ثرثاراً إنما مكتوباً بأسطُر من صدْرٍ وعجُز، وفي ختام السطر سَجَعٌ (يدّعونه قافية)، فيما الأسطر لا بَحر فيها ولا وزن ولا تفعيلة موحَّدة سليمة، ولا احترام لعَروضٍ أو قاعدة (حتى لغوية أحياناً)، بل هذيانٌ سخيفٌ وهذَرٌ رخيص لا صناعةَ فيه ولا شغل ولا تعباً جمالياً أو بنيوياً.
من ذلك ما حصل لي قبل أسابيع حين “انعجَقَتْ” بيروت، منابرَ وشاشاتٍ تلفزيونية، بصبيّة غير لبنانية (ر.ف.) سمعتُها بِجُزءٍ من جلسةٍ قرأَتْ فيها نصوصاً هي مَسْخٌ مدرسيٌّ سيِّئٌ لقاموس نزار قباني، وادّعاءُ جرأة أنثويةٍ ليست سوى كلامٍ عادي مرصوف في نثريةٍ مسطَّحة بدون وزنٍ ولا بَحر ولا تفعيلة. ولم أفهم لِماذا “اندهش” الكثيرون بـ”شاعريتها” فيما هي ناثرةٌ تسجِّع أسطرَها كي “تدّعي” الشعر وكي يسمّيها الْحضور (الْجاهل) “شاعرة”.
ومن ذلك أيضاً نصٌّ مغنّى سمعتُه قبل أيام من إحدى الإذاعات ملَحَّناً ومعْتَبَراً “شِعراً” وهو كلام ثرثارٌ (كتابة م.خ.) لا بَحر فيه ولا وزن ولا تفعيلة ومع ذلك (كالعادة) ينتهي سطره بسجع يعتبره كاتبه الْجاهل “قافية”.
ومن ذلك نصٌّ قرأْتُهُ الأسبوع الْماضي (كتابة ب.ب.) معتبَرٌ قصيدة (غنّتْها مغنّيةٌ من عندنا في أحد الْمهرجانات الصيفية) فإذا أسطر النص متراكبة عمودياً، صدْراً وعجُزاً ينتهي بـ”قافية” ليست سوى سجع سيِّئ، فلا مضمون ولا لقطة شِعرية ولا تركيب مشغولاً، بل حكي مرسَل رخيص سخيفٌ يكتبه تلميذٌ ضعيفٌ لا قيمة له ولا وزن.
هذه الهجمة الاستسهالية على الشعر (بِحجّة أن الشعر الفرنسي اليوم “تَخلّى” عن الوزن والقافية وكذلك الشعر الأميركي) ليست سوى “موضة” إسهاليةٍ عابرة زائلة (حتى آراغون الذي كسر الأوزان متصدّراً موجة السوريالية، عاد فأنهى حياته بكتابة الشعر الكلاسيكي). والفن العالي يَمشي بِخطى بطيئة إنما ثابتة وراسخة، عكس الْموضة التي تهلُّ موجةً هائجةً مائجةً صاخبةً مصوِّتةً ذاتَ مطبِّلين ومزمِّرين ومنظِّرين، ثم تأْتي – ولو بعد وقت قد يطول – موجةٌ أخرى تلغيها لتنتصب مكانها بِموضة جديدة أخرى ذاتِ مطبّلين ومزمِّرين ومنظِّرين.
من هنا أنّ السطحيين من الْمتلقّين يؤخذون بالبهرجة والتطبيل والتزمير والتنظير فيحسبون الْمَوجةَ أصالة، والْمُوضةَ عراقة، وينجرفون بالسائد الْمتغيّر الْمتحرّك الراهن، مشيحين عن الثابت الراسخ الأصيل (لأنه خارج الْمَوجة والْمُوضة). غير أنّ هذا لم يمنع شكسبير ودانته وغوته وبيتهوفن وموزار وميكلانْجلو ورافاييل من أن يكونوا خالدين أمس واليوم وغداً، وثابتين فوق جميع “مَوجات الْحداثة” التي، في الشعر والْموسيقى والرسم، تَجتاح العالَم بشكل موضة عابرة زائلة.
وبالعودة الى الشعر: لا الكتابة العمودية الغرائبية تَجعل النصَّ “شِعراً” وصاحبَهُ “شاعراً”، ولا الأسطرُ الْمنظومة صدراً وعجُزاً وسجَعاً (لا قافية) تَجعل النص “قصيدة” وصاحبها “شاعراً”، بل ناثراً سيئاً فاشلاً حتى في النثر (وهو فن صعْب). فالنثر العالي، من قلم مبدع، هو فضيحة هذه”الْموضة” الشعرية العابرة.