السبت 5 حزيران 2004
-359-
لا نناقش في نتائج الانتخابات البلدية التي (على مراحلها الأربع) جاءت في معظمها “معلّبة” على قياس “بيت بو سياسة”. لكنَّ ما صدَمَنا خلال إعلان نتائجها: قاموس زملائنا الإعلاميين في الإعلام عنها، إذ راحوا يُخبروننا عن “فوز” هذا النائب على ذاك الوزير، و”سيطرة” أصوات هذا الوزير على ذاك السياسي، وكيف هذا الزعيم السياسي “اكتسح” خصمه الانتخابي في تلك الْمنطقة، وكيف نتائجُ ذاك النائب “حَصَدَت” معظم صناديق الاقتراع في منطقته، وكيف هذا الوزير “اخترَقَ” لوائح خصومه في دائرته الانتخابية، وأصوات ذاك السياسي “تصُبُّ” لمصلحته في انتخابات 2005 النيابية، وذلك النائب ينوي أن “يطعن” في نتائج بلدية من دائرته الانتخابية، وذاك النائب “تحالف” مع نائب من دائرته لتشكيل لائحة بلدية وكانا في الانتخابات النيابية الماضية على خصومة، الى آخر هذا الكرنفال السوريالي الذي ينتهي بفوز هذه اللائحة “المدعومة” من هذا الوزير أو الرئيس أو النائب أو الحزب، وسقوط لائحة أخرى يدعمها تيار، واختراق مرشَّح يدعمه سياسي، وسقوط مرشح مدعوم من زعيم، فكأن المواطنين فئران مختبر بين أيدي السياسيين، أو قطعان أغنام يقودها السياسيون بأوامرهم وتعليماتهم وتوجيهاتهم ومشيئتهم، وكأنّ المرشّحين مجرد عِصِيٍّ أو دعامات للسياسيين في انتخابات لم تعُد بلدية شعبية بل تحوّلت إقطاعية عشائرية زبائنية يمارس فيها السياسيون اختبارات كسر العظم ضد بعضهم البعض ويُجْرون من اليوم “بروفة” مسبقة لانتخاباتهم النيابية عام 2005.
كل هذا القاموس لانتخابات بلدية مفترض فيها أن تكون إنمائية الطابع، خدماتية المسعى، توصل الى المجلس البلدي من يستاهلون أن ينتخبهم الشعب ليشكّلوا سُلْطةً محلية ترعى شؤون الناس وتدير مصالحهم وتهتم بأمورهم المعيشية وبُنْيتهم التحتية، فإذا بها انتخابات من رشّحهم السياسيون (لا الشعب) لخدمة مصالح سياسيين (لا مصالح الشعب) وإذا زملاؤُنا الإعلاميون ينجرفون في الموجة فيستصرحون السياسيين (أكثر من الْمرشحين) ويعلنون نتائج “كوتا” السياسيين بفوز (أو سقوط) أزلام المرشحين باسمهم (لا باسم الشعب) في انتخابات بلدية شكلية لبورصة الانتخابات النيابية.
تحية في هذا السياق للمحامي نهاد نوفل الذي تجدد فوزه مثلّثاً: أولاً بأصوات ناخبي زوق مكايل، وثانياً بدون أن يكون “مدعوماً” من سياسيين، وثالثاً لتجديد رئاسته اتحادَ بلديات كسروان الفتوح بأصوات زملائه رؤساء البلديات، أي بدون أن يكون “مدعوماً” من سياسيين، رغم محاولات سياسية بتوظيف انتخابات الاتحاد لمصالح شخصية. وأكثر: في خطابه عند تجديد رئاسته الاتحاد، كرَّر قوله جهيراً: “أَبعِدوا السياسة عن العمل البلدي. إنه أولاً وأخيراً عمل إنمائي”.
الى مثل هذا الرجل نحتاج في لبنان كي ننهض بالسلطة المحلية التي، إذا تولاّها الأعرف والأشرف والأجرأ (التعبير للسفير فؤاد الترك) يمكنها أن تقف في وجه سياسيين ديماغوجيين يقودنا معظمهم الى الانهيار. وليس ما يمنع أحداً أن يكون مثل نهاد نوفل، لا بما أنْجزه في زوق مكايل وحسب، بل بموقفه الجريء الدائم ضدَّ التدخُّل السياسي في العمل البلدي.
ومن ينذر نفسه للعمل في خدمة شعبه (فعلياً ميدانياً لا بشعارات طنَّانة يتشدّق بها سياسيون كَذَبَة) يناصره شعبه وينتخبه لأنه هو، لا للجهة أو الشخصية السياسية التي ينتمي إليها. وما أتعسَ مَن يفوز بأي بانتخاب، لا لأنه هو بل لأنه عصا في يد سياسي، وانتخبه ناس لا صوت لهم بل هم مجرَّدُ أعدادٍ في قطيع يقوده سياسي لا الى مستقبل البلاد بل الى مصلحته الانتخابية وتأمين “مستقبل” أولاده من بعده.