السبت 12 حزيران 2004
– 360 –
الأحد الماضي، نظّم “منتدى برونو كرايسكي” (تعاوناً مع سفارة لبنان في فيينا) لقاءً أدبياً مع أمين معلوف (في مسرح “الأكاديمي ثياتر”) حول كتابه “الهويات القاتلة”، حضره حشد صحافيين ومفكرين وأدباء نمساويين ولبنانيين مقيمين في النمسا، وكان رسم الدخول الى المسرح نحو 7 دولارات. وذكَر المتداخلون أن معلوف يعيش في باريس منذ 1976، ومؤلفاته باتت مترجَمَةً الى 37 لغة، و”الهويات القاتلة” (موضوع اللقاء) يعالج مسألة الهوية وكيف الإنسان باسم الهوية يقتل أخاه ويجرده من إنسانيته ليحافظ على بقائه. وختم معلوف مركّزاً على طفولته في (عين القبُو) القرية اللبنانية التي استلهمها في كتاباته وقصصه، ثم قرأ (بالفرنسية) مقاطع من رواياته “صخرة طانيوس” و”سلالم الشرق” و”ليون الافريقي” (ألْقتْها بالألمانية الممثلة إليزابيت روت والصحافي كورنيليوس أوبونيا).
بعدها بثلاثة أيام (الأربعاء من هذا الأُسبوع) لدى عودته الى باريس، تسلّم أمين معلوف “جائزة المتوسّط” على روايته الجديدة “أصول” (الصادرة لدى منشورات “غراسيه”) من لجنة تحكيمية قوامها: جان دورمسُّون، فرنسوا نورّيسييه، أندريه برينكور، إيف برجيه، أندريه بوني، خلال احتفال أدبي كبير (في “لاكلوزْري دي ليلا” قرب مونبارناس) حضره عدد كبير من الكتاب والشعراء والمهتمين، وخَطَبَ معلوف أنه، في روايته الجديدة، أطلق حنينه بالعودة الى منابع طفولته عبر تاريخ عائلته، لأنه بعد وفاة والده (الصحافي والشاعر رشدي معلوف) غاص على تراث عائلته وماضيها وفك أسرارها عبر تحقيق أدبي وروائي في الوثائق، وختَم: “أنا دائمُ الاعتزاز بانتمائي الى لبنان”.
هوذا تكريم عالَمي آخر كبير للبناني يَشْهَرُ انتماءه الى تراث بلاده، فيكرّمه الآخرون، وببطاقة (في فيينا) ثمنها سبعة دولارات، ويحتشد الناس في مقاعد المسرح ليحضروا اللقاء.
يا الله! أين نحن من العالم، وأين العالم منا؟ عندنا هنا: منظّمو الاحتفالات الثقافية يبحثون عن الناس في بيوتهم ليدعُوهم الى حضور احتفال أدبي، وفي فيينا يشتري المواطن بطاقة بـ7 دولارات ليحضر احتفالاً أدبياً مع كاتب كبير.
هذا هو الفرق بيننا وبين ناس العالم الْمثقف: هناك يهرولون الى احتفال أدبي، وهنا يهرولون الى احتفال خطابي أو انتخابي يدعو إليه واحد من “بيت بو سياسه” يتباهى بأنه، في كبسة زر من مشيئته، يجمع أعداداً غفيرة رهن إشارة من إصبعه، كأن الناس عنده فئران مختبرات، أو أفراد قطعان يسيرون وراءه أينما شاء وكيفما شاء وساعة يشاء.
هذا هو الفرق بيننا، نحن مواطني العالم الثالث والثلاثين، وبين النمسا (نمسا الأدب والفن وعباقرة الموسيقى) حيث الناس يدفعون مالاً ليتثقَّفوا (في محاضرة أو لقاء أدبي أو أمسية موسيقى كلاسيكية) غير آبهين للسياسيين ومشاحناتهم الصغيرة، بينما السياسيون عندنا هنا يدفعون الناس الى الجهل والتجهيل والاستجهال، كي يظلُّوا هم على رأْس القطيع. ولا يعرف هؤلاء السياسيون أنهم، في أكثريتهم، عابرون وزائلون، ولن يبقى من العصر إلاّ عباقرةُ العصر المبدعون.
مبروك للصديق أمين معلوف مرتين: مرةً لأنه نال جائزة جديدة في فرنسا التي استوطنها فأطلقته الى العالمية، وكرّمته فيينا الكبار فَشَهَرَ فيها إرثه اللبناني، ومرةً لأنه نال التكريمين هناك، هناك. فهو لو كان هنا وأقيم له احتفال هنا، لكان الخطباء على المنبر حتماً أكثر عدداً من الحضور القاعدين في صالة الاحتفال. لذا، يا أمين، إياك أن تعود الى هنا.