السبت 29 أيار 2004
-358-
يروي النقيب عصام كرَم في مَجلسه الدوري – وما أعذب مَجلسَه وأوسعَ أفق قراءته – أن الملك الشمس لويس الرابع عشر، بعدما استقبل كبار الشعراء والمسرحيين في بلاطه الملكي وكرّمهم وفتح لهم فرص الكتابة والتأليف والتنفيذ، طلب الى الشاعر الكبير جان راسين أن يكون معلّم أولاده ومدوّن السجلّ الملكي (لا تأريخاً بل كتابة مَحاضر) وكان راسين في قمة عطائه بعد “فيدر” و”أندروماك”، فهنئَ الى هذه “الوظيفة” تحميه من الكفاح في سبيل اللقمة.
وذات يوم، بعدما انتهى راسين من التدريس، استدعاه الملِك وطلب إليه أن يصغي الى أبيات من الشعر قرأها الملك ببعض تعثّر لم تستطع هيبة الملك أن تخفيه. وحين انتهى سأل راسين رأْيه في الأبيات فأجاب الشاعر بتهذيب جَمّ: “هذا ليس شِعراً يا صاحب الجلالة، هذا كلام سخيف”. فصمت الملك قليلاً ثم قال: “سخيف؟ هذه الأبيات لي يا سيد راسين”. فهبَّ راسين واقفاً متلعثماً مرتبكاً وانْحنى معتذراً: “عفواً، سيّدي، أتسمح لي بأن أُعيد النظر في رأْيي المتسرِّع”؟
الشاهد أنّ لويس الرابع عشر، رغم الذي بلغه من مجدٍ برعايته الحركة الفنية والأدبية في عصره، لم يكتفِ بذاك المجد بل اشتهى أن يكون شاعراً، مدركاً، ربما بحدسه أو بذكائه، أن الملك زائل ولو طال، وأن الشاعر باقٍ خالد ولو انقصف في ربيع العمر.
والحاكمُ الذكيُّ هو الذي يرعى الحركة الأدبية والفنية في عصره، فيتيح لمبدعي عصره أن يُنتجوا أعمالاً ويتنافسوا في الجودة والنوعية، ويضمن لنفسه أن يكونَ اسمه ملاصقاً أسماءَهم فيخلُدَ بخلودهم وتلتصق باسمه أسماؤُهم. والأمثلة على ذلك لا تحصى، منها أنّ الكونشرتو للكمانَين وضعه باخ في كولونيا (ألمانيا) خلال إقامته فيها خمس سنوات ضيفاً على الأمير ليوبولد الذي كان عاشقَ موسيقى وعازفَ كمان. ولأجل ذينك العشق والهواية، أسس فرقة موسيقية من 18 عازفاً، ما جعل باخ ينتج الكثير من أعمال موسيقى الحجرة والكونشرتوات والمتتاليات التي بقيت بين أبرز أعماله. واليوم نسي العالم كل معلومة عن الأمير ليوبولد، فهو مات منسياً وما كان يذكره أحد لولا ورود اسمه ملتصقاً بالكلام على أعمال وضعها باخ خلال إقامته ضيفاً على الأمير.
وكذلك لويس الرابع عشر نفسه، ذاك “الملك الشمس” نفسُه، من يعرف كم مرسوماً ملكياً أصدر، وكم طريقاً شَقَّ في خلال ولايته، ومن كان مجلس وزرائه أو مستشاريه؟ لكنّ الجميع يعرفون، من أصغر طالب متنوّر الى العلماء الخبراء، أنه باقٍ خالداً في التاريخ، أكثر من جميع الـ”لويسات”، لأنه رعى الحركة الثقافية في عصره، مدركاً أن السياسة رهان آني يجعله شبيهاً عادياً لأي ملك عاديٍّ آخر يزول الى النسيان عندما يغادر العرش.
ولنا في ملك فرنسا (لويس الرابع عشر) وحاكم كولونيا (الأمير ليوبولد) والخديوي اسماعيل (راعي فيردي في وضعه أوبرا “عايدة”) أمثلة بين عشرات حكام جاؤوا وزالوا بينما المبدعون في عصرهم ما زالوا خالدي على الزمان.
المخروعون عندنا برعاية السياسيين والاستزلام للسياسيين والسير قطعاناً خلف السياسيين، واللهاث الى المناصب البلدية والإدارية والنقابية لأنهم “مدعومون” من سياسيين، فلْيفهموا أنهم زائلون هم وداعموهم السياسيون. ووحدهم باقون خالدين مبدعو لبنان الضامنون خلودهم. فليلتحق بهم السياسيون، لا العكس، إذا أراد السياسيون أن يضمنوا البقاء في الذاكرة بعد موتهم للمرة الأخيرة.