السبت 22 أيار 2004
-357-
بات واضحاً أن الجيل الرحباني الثاني لم ينْحُ (أو هو عمداً لا يريد أن ينحو) صوب المناخ الرحباني الأول. وهو على صواب أكيد، لأن المناخ الرحباني الأول يواكب العصر (أعمال منصور الأخيرة)، وهو ما يجعل مشاهدة الأعمال الرحبانية الجديدة بالنوستالجيا وحدها ظلماً يلحق بالأعمال وبالجمهور نفسه، وإن ليس يلحق بالرحابنة الرؤيويين أصلاً.
فبين مسرح تياترو لبنان 1963 (“الليل والقنديل” لعاصي ومنصور)، وتياترو لبنان 2004 (“آخر يوم” لأسامة الرحباني، وقبلها “كما على الأرض كذلك من فوق” لغسان الرحباني، وقبلهما العام الأسبق “… وقام في اليوم الثالث” لأسامة الرحباني) مسافةُ 40 سنة زمنية ومشهدية وموسيقية تُثبت أنّ نضارة الأعمال الرحبانية لا تخبو مع الأيام.
أخيرُها “آخر يوم” لأسامة (منذ الشهر الماضي ومستمر هذا الصيف) جاء يغنم من التكنولوجيا بقدْرما يغنم من مضمونٍ إن لم يكن رحباني المتن (القصة عن “روميو وجولييت” شكسبير) فهو رحباني المعالجة النصية (بإشراف الكبير منصور الرحباني) ورحباني الكتابة الموسيقية (أسامة) ورحباني المشهديات (إخراج مروان)، حتى ليمكن القول إن ما كان يعوّضه النص الرحباني الكتابي الشعري والموسيقي الرومانسي عن الضخامة المشهدية على خشبة كازينو لبنان (“الليل والقنديل” 1963 بحضور فيروز الآسر صوتاً وتمثيلاً، وديكورها البسيط: خيمة عادية قدّام بيت منتورة، وألحانها وأغنياتها التي لا تزال حتى اليوم نضرة كأنها خارجة من بين الستارة) جاء العمل الرحباني الجديد على الخشبة القديمة نفسها ليعوّضه بسينوغرافيا بَهيَّة الجمال والأناقة: كوريغرافيا ديبي آلن العالمية النجاحات، الراسخة في الوثوق، وديكور وملابس أغنيس ترابلن المتكاملة الكتابة المشهدية في ذوق ألوان ومغزى أزياء، وإضاءة فؤاد خوري الذي لم يعُد يحتاج شهادات، وإخراج مروان الرحباني الدينامي، نضيف إليها المواهب الشابة التي تتوثب في انطلاقةٍ نأملها تتواصل بعد هذا العمل الى أعمال واثقة شبيهة: يوسف الخال جونيور الذي نتوسّم فيه خطاً درامياً يتفق ووسامته الشكلية والأدائية، رودي داغر التي نترقب لها أعمالاً صوتية تالية تتفق وطاقتها الصوتية المبشرة بمسافات قد تكون جاهزة لاقتبال الجديد، الى الحضور المكين من بول سليمان وجوزف بو نصّار وتقلا شمعون وزياد سعيد ونزيه يوسف ويوسف حداد والمحيطين المتكوكبين بين فريقي اللعبة.
وباللفتة الى كتابة موسيقية يحاولها أسامة الرحباني (منذ فترة غير قصيرة) تكسر المتتاليات المألوفة نحو مناخٍ يبدو غربياً متماشياً مع الخط التصاعدي في الموسيقى الحديثة، والى كتابة نصية خدمت الكوريغرافيا مفسحة لها في المساحة المشهدية ما تقوله حيث لا يقول النص، والى النص نفسه الذي – وإن هو لم يحمل بصمات كثيرة من الشطحات “المنصورية” القوية شعراً أو سكباً درامياً – يظل متين السكب والسبك والتركيب الدرامي، ما يجعل العمل الرحباني الجديد “آخر يوم” لا يخون التوقعات، ولو هو يقلب مفهوماً “شكسبيرياً” سائداً: في الخاتمة يخال نديم أن حبيبته ماتت فيشرب السم كله كي يموت حد حبيبته نسرين التي تفيق من الغيبوبة فيندهش لها: “لحقتك ع الموت رجعتي ع الحياة” لتعود هي، بعد موت حبيبها وعجزها عن إيجاد سُمٍّ في الزجاجة تتناوله كي تموت بعده، تتناول المسدس وبه تنتحر: “بالحياة سوا، وبالموت سوا، قصتنا بتبقى، نحنا منموت بس الحكايِه بتبقى”. وها هي باقية، وستبقى دائماً، ما دامت الأرومة الرحبانية تعيش الآتي بجديد اليوم، ولا تقتات من الماضي وتنام فيه على أمجاده واستعاداته.
وهذا سرٌّ كبير آخر من تواصلية كل عمل رحباني جديد.