الأحد 9 أبار 2004
– 355 –
… وغداً يذهب المواطنون الى “الجولة” الثانية من الانتخابات البلدية. فهل يتّعظون من “الجولة” الأُولى؟ وهل سيمضي الناخبون الى صندوق الاقتراع لا لانتخاب من يمثّلهم بل لوضع أسماء من رشحهم السياسيون ممثلين عنهم هم لا عن الشعب؟ وهل سيبقى الناس ينساقون الى هذا الحد من الامّحاء الفردي ليجرّهم التيار الجماعي الى نهر متدفق من المحادل والبوسطات والتكتلات واللوائح المركبة الجاهزة المعلّبة السياسية، بصرف النظر عمّا في اللائحة ومَن في اللائحة، بل فقط لأن المرشحين من اختيار التيارات السياسية؟
أإلى هذا الحد بات المواطن اللبناني فأْر مُختبر، يُجري عليه السياسيون اختباراتهم ويستخدمونه لكسر عظم خصومهم ويستعملونه وقوداً في معاركهم، وكل ذلك تحت شعار خدمة المواطن والديمقراطية وحرية التعبير والاختيار؟
أكتب هذا، وفي بالي ثلاثة نماذج كان في نيّتي أن أكتب عنها السبت الماضي، لكنني لم أشأ أن أكون استباقياً فئوياً ولا منقاداً بعاطفتي الى أصحاب هذه النماذج، مع كل قناعتي بأن نتائجهم كانت ستأتي كما أتت، لأنهم نجحوا بانتمائهم الى الإنماء في بلداتهم، ونهضوا من الانتخابات بفضل النهضة التي حققوها لبلداتهم بشراً وحجراً وتطلّعات.
أكتب هذا وفي بالي زوق مكايل وعاليه ومحطة بحمدون. وفي لحظة “يوتوبية” كنت أفكّر أن المواطنين في هذه البلدات الثلاث سيعلنون أنهم يرفضون الذهاب الى صناديق الاقتراع، لا إشاحة عن الانتخاب ولا مقاطعة إياها، بل لبداهةٍ تقضي بأن الذي حققه نهاد نوفل في زوق مكايل، ووجدي مراد في عاليه، وأسطا أبو رجيلي في بحمدون المحطة، ليس خاضعاً للجدال ولا هو موضع منافسة انتخابية. ومع ذلك انتخبوا. معقول؟ وأوجدت التيارات السياسية “خصوماً” لهؤلاء الثلاثة ورفاقهم، وحملت الناس على الذهاب الى صندوق الاقتراع و”منافسة” أولئك الثلاثة ورفاقهم، بحجة “التغيير والتطوير وتشجيع العناصر الجديدة”. غير أن المواطنين في زوق مكايل وعاليه ومحطة بحمدون اقترعوا لا للأشخاص بل للمشروع، وللوفاء النبيل لا للزبائنية والاستزلامية و”الأذنابية” والغرق في همروجة الشعارات السياسية.
سَمّيتُ نهاد نوفل ووجدي مراد وأسطا أبو رجيلي ورفاقهم، لأن فوز لوائحهم كان بديهياً. لكنني أَعتذر من فائزين مماثلين في بلديات أخرى لم أعرف عنهم وعنها. فأنا واثقٌ أنّ لبنان لن يخلو من بلدات ذهبَت أو ستذهب فتقترع للمشروع الإنمائي لا للائحة يدعمها الوزير الفلاني أو مرشح مدعوم من النائب الفلاني أو أفراد ركَّبَ لوائِحَهُم سياسيون، كأنَّ المرشح لا قيمة له في شخصه ولا في ذاته بل كل قيمته في انتسابه الى هذا أو ذاك من “بيت بو سياسة”.
قبل أقلّ من قرن، انزاح عن رقاب شعبنا النير العثماني ليحلّ محلّه نير الانتداب. وقبل أقلّ من ثلثي قرن، انزاح عن رقاب شعبنا نير الانتداب. فهل يجوز، في مطلع قرن العولمة والحرية والوعي، أن يبقى في صفوف شعبنا من يحملون نير السياسيين ويسيرون به مقيَّدين مستزلِمين مستسلِمين مستذنبين لهذا أو ذاك من السياسيين، قطيعاً بشرياً يسوسه من لا يمكن أن يعيشوا إلاّ بإقطاعية تجعل الناس أذناباً لهم أو أغناماً تساق في القطيع بلا صوت لها ولا رأي ولا حرية؟
ومن اليوم حتى يتعمّم نموذج زوق مكايل وعاليه وبحمدون المحطة على كل لبنان، سنبقى ننتظر أن يتعمَّم الوعي في صندوق الاقتراع فلا تنْزل فيه سوى أسماء الذين يحملون مشروعاً لا يافطة انتماء سياسي، وتكون قيمتهم في شخصهم هم، لا في الذي ينتمون إليه من فسيفساء الطقم السياسي.