348: … وبعد زكي ناصيف؟؟

السبت 13 آذار 2004
– 8 4 3 –
ظهر اليوم نودّع زكي ناصيف من دون أن يودّعنا. فهو باقٍ معنا بأعماله التأْسيسية التي انبنى عليها، وعلى أعمال رفاقه من الرعيل الأول، تراثنا الغنائي اللبناني النقي بعيداً عن كل مصري وبدوي كان يومها رائجاً.
وما قلناه يوم غاب عاصي الرحباني وفيلمون وهبه، نقوله اليوم من جديد: كلما غاب ركن كبير من أركان الأغنية اللبنانية يصيبنا الخوف والقلق: الخوف على تراث لنا يتوقف عطاء أصحابه، والقلق من موجة هجينة ساقطة تجتاح جيلنا الجديد فتُبعده عن تراثنا الحقيقي، وتجعله أمياً أكثر بتعريضه لموجة أغانٍ “على الموضة”. فالموجة المصرية عادت الى ديارنا كما كانت في خمسينات عاصي ومنصور وزكي وتوفيق الباشا وتوفيق سكّر، وعوض الأغنية البدوية التي على “موضة” تلك الأيام، حلّت محلها اليوم “موضة” أغنية خليجية لم تكتف باجتياح أسواقنا بل تأسست لها شركات إنتاج خليجية لترويج أعمال هابطة بأصواتٍ لبنانية انخرَعَت بالأموال الخليجية فانساقت قطيعاً غبياً جاهلاً الى هذه الموجة التي ابتعدت عن الهوية اللبنانية كلماتٍ ولحناً ومناخاً.
يا أطال الله عمر منصور الرحباني وتوفيق الباشا ووديع الصافي، أركان الرعيل الذي لا يزال يتعامل مع الموسيقى اللبنانية من منابعها التراثية، والأغنية اللبنانية من جذورها الأصيلة. وحمى الله وليد غلمية (الذي يؤسس لجمهور الموسيقى العالية في لبنان) والياس الرحباني (الذي لا يزال يصرخ في وادي تصحيح المسارات الفاسدة). فبهؤلاء ورعيلهم نظل نشعر أن العافية لا تزال ممسوكة بأركان ذوي صلابة، وأننا لا نزال في عصر كبار نركن إليهم ونعنو ونفيء، قبل أن يستفحل عند مغنّينا ومغنّياتنا جراد الأغنية المصرية والخليجية والتركية والهجينة فيطمر أصحاب الأصوات اللبنانية الذين “فلت الملق” عندهم، فلا ضابط ولا وازع ولا رادع لما ينهارون إليه وينهار معهم وسط موسيقيٌّ وغنائيٌّ لبناني كان، منذ ربع قرن، منارةً ومثالاً وقدوة، فإذا به اليوم، بسبب هؤلاء الجهلة، ينهار الى تفاهات هي أسخف ما ينظر إليه عالم عربي كامل كان يجد مثاله الأعلى في الأغنية اللبنانية.
هذا هو القلق الذي يعترينا اليوم مع غياب زكي ناصيف. فقيمة الكبار ليست في أعمالهم وحسب، بل في حضورهم معنا: ضمانةً من السقوط، وأرضيةً صلبةً لا تتزحزح تحتنا مهما ارتجَّت الأرض. ولأبناء الجيل الجديد من تراث زكي ناصيف معجن كثير يغرفون منه فلا يجوعون، هو الذي هندس الكلمة واللحن والإيقاع مدرسةً لأجيال متعاقبة مقبلة، تتعلَّم منها كيف تبني وتهندس وتؤلف وتلحّن، وتكون طالعةً من أرضنا المباركة لا من صحارى الآخرين وأغراس من عندهم هجينة ممسوخة يستبيحها فيغتصبها كلُّ عابر وطائح ولقيط.
هذا لا لندعو، بالضرورة، للعودة الى الدبكة والميجانا والعتابا و”أبو الزلف”، وإنما ليكون لنا في تراث زكي ناصيف، الثقيف العارف الخبير، مرجعٌ لكاتب النص، ومثال لواضع اللحن، ونموذج لصاحب (أو صاحبة) الصوت. فميزة الكبار ليست “ما ينتجون” وحسب بل “كيف ينتجون ماذا”. وليست مصادفة أن تكون أعمال زكي ناصيف راجت، لا بالشيوع الاصطناعي الذي نجده اليوم في أغاني الموضة السخيفة، بل بدخول أعماله الى قلوب الناس ووجدانهم وذاكرتهم الجماعية التي ما عادت ترضى بأقل من السائغ الذي يدخل القلب قبل السمع.
بهذا القلق الجماعي نتألّم اليوم ونحن نودّع زكي ناصيف.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*