السبت 20 آذار 2004
– 9 4 3 –
يواصل جورج الزعنّي اشتغاله على نبش تراثنا القريب والسحيق، مرآةً لجيلنا الجديد الذي يظن أن بيروت هي الـ”داون تاون” ومقاهيه وأراكيله وليله الذي لا ينام، أو أن بيروت هي المطاعم التي تتلازّ وتتراصّ بين كل بناية وبنايةٍ مطعماً، أو أن بيروت هي علب الليل التي باتت معششة في الأحياء السكنية جمعاء حتى بات يهجّ أصحاب البيوت لما يحدث فيها من ضجيج وصخب موسيقى ومناظر عهر ومشاهد فساد أخلاقي فاقع.
لا. كلا (بالإذن من غسان تويني لاستعارة التعبير منه). بيروت ليست هذا وحسب (مع ما فيه من دليل حيوية تحتاجها المدينة، إنما بضوابط). بيروت هي المدينة الأُعجوبية التي رفضت أن تموت رغم جميع قوى الشر في الأرض. أرادوها تحترق فلم يحترق منها سوى الشوارع والحيطان، وبقيت روحها حية، وستبقى. أرادوها تتدمّر فلم يتدمّر منها سوى البنيان، وبقي شريانها البشري نابضاً في وجه العواصف، وسيبقى.
لكنّ لبيروت ذاكرةً عظيمة لا بُدّ لأبنائنا من الجيل الجديد أن يعرفوها: بيروت التي كانت، ذات فترة ذهبية، حلم المشرقيين والسياح العرب والزوار الأجانب، لؤلؤة هذا الشرق الأعجوبية، محور الأوساط المصرفية والمالية، مرنى الفنون الجميلة على أنواعها، منبر الشعراء والأدباء يجيئون إليها فيتكرّسون. بلى: كانت بيروت حلم الحالمين ومقصد المستثمرين وعرس العشاق، فلما باتت حصرمة في عيون الحاسدين أحرقوها حاقدين.
ذاكرة بيروت هذه، يسترجعها جورج الزعني في معرضه الرائع (“بيروت في خمسة فصول” – حديقة الغبيري مقابل الماريوت – لغاية الاثنين 22 آذار الجاري، ونتمنى تجوال المعرض في أكثر من مكان وفترة)، منطلقاً من نسخ صحيفة “لو ريفاي” سنة 1928 (كان يصدرها فترتئذٍ ألكسندر خوري)، وعلى صفحاتها علَّق الزعني صُوَراً (بالألوان وبالأسْوَد والأبيض) من بيروت العصر الذهبي (منذ الخمسينات فانتشار ازدهارها خلال الستينات حتى منتصف السبعينات)، بيروت الشوارع العتيقة والعريقة، ساحة البرج وعجقة باب ادريس، نوستالجيا الروشة والسان جورج وفندق بسول الكبير وكورنيش المنارة (أيام كان لا يزال جادة الفرنسيين)، بيروت اللؤلؤة الممتدّة زوغتها الى كازينو لبنان وأرز بشري وشاطئ صيدا وصور وشموخ بعلبك وتلك الأيام الزاهرة الرائعة قبل أن تجتاح لبنان سنوات الجمر.
كل هذا يعرضه جورج الزعني بإخراج ذكي حققه أنيس الجراح وخَطَّه علي عاصي وتنادى إليه فريق طيِّب الطويّة والمبادرة اجتمع لمحترف جورج الزعني، وفتحت له بلدية الغبيري، مشكورةً، مساحة حديقتها العامة الجميلة فلم تَعُد مجرد حديقة للنّزهة والترفيه، بل باتت حديقة التذكار والاعتبار، وحياكة فصل خامس في رجاء بيروت.
وكم نحن في حاجةٍ الى الاعتبار من هذا المعرض الذي يشير الى أكثر من مقارنة بين ما كان يجري أيامئذٍ وما يجري اليوم (منه، مثلاً، في “ريفاي” 9 آذار 1928، هذا العنوان على الصفحة الأُولى: “الفساد السياسي يستشري في الانتخابات البلدية”، ما يدُلُّ على التدخل السياسي الفاسد في كل عصر لبناني).
لجورج الزعني تحية الوفاء لِما أَرانا عن بيروتنا العظيمة. ولبيروتنا الغالية عهدُ أن نظلَّ على الوفاء لها والولاء، حتى يعرف أبناؤُنا أن يحبوا عاصمتهم ووطنهم من دون انقياد استسلامي واستزلامي لمشاحنات السياسيين.