الثلثاء 10 شباط 2004
دمشق – 3 4 3 –
حين انعطف شوقي بغدادي (الشاعر السوري الكبير رفيقي في اكتشاف شوارع دمشق العتيقة) وأشار لي الى الباب الشرقي للمسجد الأُموي، استدار يَميناً وجَمُد: “هذا هو”. فارتطمت عيناي بلافتة عتيقة: “مقهى النوفرة”. وبدون تعليق دلف قبلي الى الباب. هرع إليه شاب: “يا أهلاً بالأستاذ شوقي. اشتقنا الى طلاتك”. قدمه إليّ: “أبو شادي مُحمد ديب الربّاط صاحب الْمقهى”. وما كدنا ننتحي في زاوية هادئة حتى “انتحى” معنا سائلاً بلهجته الشامية الْمؤصّلة: “شو بيشربو الأساتذه”؟ أجاب شوقي: “شاي أُكرُك عجَم”. وما كدت أَستفهم عن هذه الـ”أُكْرُك” (بضم الْهمزة والراء وتسكين الكاف) حتى تناهت إلينا من الْمسجد مَجموعة أَصوات منشدة فالتفت إليّ شوقي: “هذه أناشيد بأصوات جماعية قبل أذان الظهر”.
أفدت من بقاء أبو شادي “منتحياً” معنا لأسأله عن الْمقهى واسمه فانشرح شارحاً: “هذا، أستاذ، أقدم مقهى في كل حي النوفرة بين الْمسجد الأُموي ومقام الست رقيّة. ورثته عن أبي الذي ورثه عن جده. كانت أمامه نافورة تسحب الْماء من بردى تَحتنا وتضخه الى علو متر ونصف الْمتر من دون آلة ضغط. اليوم شح النهر. شحت النافورة. صارت عموداً جامداً في بَحرة فارغة. وهذه هي باقية أمامك صامتة حزينة. ولكن، والْحمد لله رب العالَمين، بقي الْمقهى يَحمل اسْمها تيمناً “مقهى النوفرة”، يعتزُّ بِماضيه العريق وبأن فيه آخر حكواتي في دمشق.
ماذا؟ حكواتي؟ استفزّني الأمر. استفسرتُ أكثر عن هذه الظاهرة التراثية التي غابت عن مُجتمعنا إلاّ في بعض ليالي رمضان. فشرح أبو شادي: “إنه سَميّي أبو شادي رشيد الْحلاّق. في منتصف العقد الْخامس من عمره. يعمل في النهار بقّالاً، وفي الليل حكواتياً. يَجيء يومياً بين صلاة الْمغرب وصلاة العشاء. يَجلس هنا على هذه الْمنصّة العالية أمامك، وهي مُخصصة للحكواتي. لا يَجلس عليها أحد سواه. يَتَعَنْتَر عليها، في يده سيف يساعده على نبرة القراءة، يضرب به على هذا العمود حين يعلو الضجيج ويريد إسكات السامعين. طمبوز أبو شادي. أحياناً لا يسكت الْجمع وهو يقرأ، فيُغلق الكتاب وينْزل عن الْمنصة ويَخرج مدمدماً لاعناً جهل من لا يَحترمون سيرة عنترة بن شداد. كان يقرأُها كلّها بأجزائِها الثمانية. وحين ينتهي يقرأ سيرة الظاهر بيبرس وهي في 20 جزءاً. تستغرق القراءة الواحدة (عنترة والظاهر وبعض السير الشعبية الأُخرى) نَحو ستة أشهر. ثُم يبدأ من جديد، كل ليلة. جاء وقت أمسى معه السامعون يعرفون حكاياته غيباً. أحياناً، إذا اختصر مقطعاً أو أخطأ في نص أو اسم أو تاريْخ، يردّونه من تَحت. باتوا يعرفون النص لكثرة ما سَمعوه. كان الناس في الْماضي ينتهون من التكييس في حَمام نور الدين زنكي الشهيد (على اسم والي دمشق) في شارع البزورية، ويأتون كل مساء يتجمّعون في الْمقهى هنا فيضيق بِهم الْمكان حول الْحكواتي. كان يقرأُ كل ليلة. لا ينكفئ حتى حين لا يكون في الْمقهى إلاّ زبون واحد. اليوم بات معظم جمهوره من السيّاح. خف الروّاد يا أستاذ. انْخرعوا جميعاً بالتلفزيون. يلعن التلفزيون وساعتو، يا أستاذ. شلون هاد؟ ناس هيك يفوتو ع بيوتنا بلا استئذان! كاسك فاضي أستاذ. بتريد تـزيد كاس تاني شاي أُكْرُك عجم”؟
أحدّق بصديقي شوقي بغدادي. ألْمح في عينيه غصةً على الْماضي لا يعرف حرقتها إلاّ من يعرف رهافة الشعراء.