السبت 31 كانون الثاني 2004
دمشق – 2 4 3 –
الْجولة في دمشق القديْمة لَها نكهةٌ أُخرى حين يرافقك فيها خبير. فكيف إذا كان الْخبير شاعراً في رهافة شوقي بغدادي، الشاعر الذي بات اليوم وجهاً عالياً من وجوه الشعر الْمُعاصر. وهو جاءني ذاك الصباح الدمشقي الْهوى، حاملاً (يا بارك الله) سنواته الْخمس والسبعين، واصطحبني من الفندق الى جولة في “دمشق الآرامية” (كما سَمّاها) معتبراً أن خير ما يُهدي شاعر من دمشق لشاعر في دمشق، جولة في نصاعة التاريْخ بين عراقة برَدى وهيبة قاسيون.
انطلقنا من ساحة الأُمويين (تشهد حالياً ورشة أنفاق) مروراً بِما كانت ساحة “معرض دمشق الدولي” (نزَحَت شرقي العاصمة صوب طريق الْمطار، لتقوم مكانَها قريباً مَجموعة مَحال تِجارية)، فعدتُ بالذكريات الى حفلات فيروز في الْمعرض، تنتهي بنا غالباً مع عاصي ومنصور الى قصف عمر الليل في مقصف “فندق الشرق”.
حاذَينا “دار الأوبرا” الْجديدة (افتتاحها في نيسان ترجيحاً) وعبرنا جسر فكتوريا (حيث كان فندق الْملكة فكتوريا، واليوم جسر فوق بَرَدى) يطالعنا نصب الْمرجة (170 سنة)، حتى أطلَّت علينا بِهيبتها التاريْخية قلعةُ دمشق. ومن عندها نستهلّ جولتَنا في دمشق القديْمة بدءاً من تَحيَّتنا تِمثالَ صلاح الدين على حصانه الصاهل.
نترجّل. نبدأُ دخولنا “دمشق الآرامية” (الكانت مُحاطة بسور هائل مستقيم) من بقايا السور في الشارع الْمستقيم “مدحت باشا” (الْمسقوف الْموازي تَماماً “سوق الْحميدية”) والْمحافظ على طابع دمشق العتيق. نَمُرّ بـ”سوق البزوريّة” (أتذكّر نزار قباني الذي ذكره مراراً في يوميات طفولته الدمشقية) فتعبق منه السكاكر. ندخل خان أسعد باشا العظم. يَخُفُّ إلينا الْحارس شارحاً بِحماسة: “بناه والي دمشق أسعد باشا العظم سنة 1749. فيه 84 غرفة منامة، هنا فوق. أصبحت الآن متحف دمشق التاريْخي. وفيه هذه القبب الثماني ووسطها هذه الفتحة السماوية الْمطلّة على هذه البحرة أمامك تتوسط الساحة هنا، حيث أنتما، وهي كانت ملتقى تُجّار القوافل يتبادلون السلع ويبيتون الليل”.
نواصل. يستوقفنا رجل يصافح شوقي بِحرارة: “أهلاً بشاعرنا الكبير. أتابعك كل ثلثاء في “تشرين”. نَحن نفخر بك يا أستاذ”. بعد خطوات، يقدّمني شوقي الى صديق له: “أبو أُسامة بدرالدين العوف، رئيس لَجنة أحياء دمشق القديْمة. يروي لنا حكايات لا تتسع لَها عشرة “أزرار”. نكمل. نتوقف قليلاً عند جامع عبدالْملك بن مروان. نَمُرُّ بـ”عُطارة” (عين مضمومة) تفوح منها روائح زكية توحي بالعتق الْجميل. نعبر سوق القباقبية. ندخل أزقة عتيقة نلج منها الى باب يوصلنا الى أقبية تَحت الأرض كانت لقصر معاوية وهي اليوم مطعم “القصر الأُموي”: أنيق مُحافظ على طابع الْخليفة الأموي الأول. نصل حي “النوفرة”، نستريْح في مقهاه الشهير بالْحكواتي (مقال الأسبوع الْمقبل). نتوقف بِخشوع أمام ضريح “الست رقيّة بنت الْحسين الشهيد بكربلاء”. نَمرّ بالْمدرسة الْجقمقية، وهي باتت اليوم “متحف الْخط العربي”. نكمل تظللنا “الْمشربيات” الدمشقية (شرفات خشبية فوق الطريق، ذكّرتني بـ”شناشيل بنت الْجَلبِي” وغرام بدر شاكر السياب تَحتها). نُحاذي الْمكتبة الظاهرية (وكنت جئتُها قبل 30 عاماً أُراجع فيها مَخطوطة “تاريْخ دمشق” لابن عساكر”). نتوقف خاشعين عند ضريح صلاح الدين، وننهي الْجولة من حيث بدأناها: عند تِمثال صلاح الدين على حصانه الصاهل. وترافقنا الذكريات الدمشقية عطراً قديْماً طالعاً من “عطارة” تدير ظهرها للعصر.