السبت 15 تشرين الثاني 2003
– 1 3 3 –
زارَها في النوم. استدعاها إليه. صباحَ اليوم التالي كانت الى سريره. صَحا من غفْوته. استوى جالساً. حدَّق فيها. دعا لَها. أَغْضَت تبرُّكاً. عاد الى غفْوته. غادَرَت وهي تُحسُّ غبطةً روحيةً منسوجةً من صمْته وبَرَكَة عينيه.
زاره (الدكتور سامي مكارم) حاملاً إليه كتابه “الْحلاّج”. أخذَه ولَم يتصفَّحه. جاء مَن يأخذه من يده. رفض. حدّق في الدكتور مكارم: “أتفوّضني بعد قراءته أن أعطيه لأحد”؟ أغضى مكارم غبطةَ انصياعٍ لصدقيَّة الأمانة.
زرتُهُ قبل فترة. كانت الباروك شَمساً صاقعة، وغرفتُه رهبةً بدفء الأدعية. جَلَسْتُ الى سريره. غَفْوَتُهُ هنيئةٌ تشُعّ بطمأنينة الروح وصحوةِ جسدٍ يتهالك على سنواته الْمئة والأربع. صحا من غفْوته. لَم يَسْتَوِ جالساً. تقدّمْتُ من يده أبوسُها: ناعمة صاغرة كأيدي الأولياء. تَمنّيتُ لا أغادرُ غرفته. شعوري لَحظتها أنني أمام ولِيٍّ حيٍّ لَم يعادلْه إلاّ شعوري للمرة الأُولى لَحظةَ وقفْتُ داخل غرفةِ ولِيٍّ غاب، وأنا في مَحبسة عنّايا.
الشعور برهبة الوقوف في حضرة الشيخ أبو حسن عارف حلاوي. في حضرة الْحيّ الباقي يصبغ هذا العصر بالصِّدقِ والأمانةِ وكُنْه الإخلاص بِمعنى الذي “أخلَصَ نفسَه من كل أنا”، ومن يَخلص من الأنا يـبلغ التوحيد.
الشعور بأنني أمام متقشّفٍ يتوسّط لأدعية الناس فتستجاب وتستحيل الأدعية كرامات. أمام الرؤيوي بنعمة رب العالَمين يلبَسُها تواضعاً وطاعةً (على مسلك جلال الدين الرومي) فتكون تلبيةٌ له ولَم يطلب. أمام من أوصى لِصحبه في الشوف خلال الْحرب الشرسة: “لا تعتَدُوا على أحد، وأنا كفيلٌ بأن لن يصيبكم مكروه” فأطاعوه ونَجوا.
الشعور بأنني أمام ولِيٍّ من أولياء الله، يُرسلهم إلينا هدايةً للمؤمنين ونذيراً للكافرين، فيرعوي هؤلاء، وأولئك على إيْمانِهم يَثبتون. فإن لله في عبيده شؤوناً لا يكْنَهُها إلاّ الراسخون في خدمة الله عن طريق خدمة البشر، خُدّاماً للسوى في الْمجتمع، متنسِّكين للرب في خلواتِهم فإذا أتوها فهُم الى ربِّهم خالدون، وبعدها الى معشر الناس يعودون.
الشعور بأنني أمام شيخٍ ذي كرامات، سليلِ الْمتصوفة الأبرار، يَهدُون فلا يكونون على الآخرين عالّةً ولا يُلقمهم الآخرون عوزاً، بل من عرق جبينهم يأْكلون، ويكونون لله وسطاء كي تظهر عبرهم كرامات الله في الناس.
الشعور بأنني أمام شيخ الْمشايخ، في وهنه الْجسدي قوة روحية، في سيرته عفة إرادية، وفي سلوكه الإلفة والْمحبة وتواضُعُ من يعود فيـبُوس يد زائره، على عادة شيوخ بني معروف إذا انْحنى زائر لتقبيل يدهم.
الشيخ أبو حسن عارف، أيّها الوليُّ الْحي من لبنان: لبنانُ اليوم في حاجة الى كراماتك. فاذكُرْه، وأنت مُغْمَضُ العينين منخطفٌ الى عَلَوات الروح، وامنحْهُ بعضاً من أدعيَتِك. إنه يَحتاج اليوم، أكثر ما يَحتاج، الى نَبْض قلبك.
ذات يوم قال غبريال هانوتو: “إن لم يكن لبنانُ أعلى قمةٍ في الْجغرافيا فهو على الأكيد أعلى قمةٍ في التاريخ” ولو عاد اليوم لأضاف: “… وفيه كذلك أعلى القمم الروحية تشُعُّ على الشرق، من تلّة عنايا، الى تلّة البيّاضة، الى تلّة جْربتا، الى تلّة كفيفان، ويستقرُّ شعاعُها اليومَ حجيجاً على تلّة الباروك”.