330: في حمى حامات

السبت 8 تشرين الثاني 2003
– 0 3 3 –
كأنها ليست في لبنان. كأنها ليست في خارطة أرضية. كأنها في نجمة تسكن، أو كأنّها هبطت من نجمة.
تدخلها كما أية ضيعة. وحين أنت فيها، تلفُّك بأشعّة من جمال، وظلالٍ من هدوء وسكينة، كأنك في صومعة، في منسك، في مكان ناءٍ بعيد عن هذا العالم. لا ضوضاء، لا أصوات. بيوتُها من طراز تراثي. طرقاتُها تَتَأَفْعَن حافية، تَمُرُّ عند باب، تتوقَّف عند كنيسة ختيارة، تتسرّب بين حفافي حجارة تنضح بتعب تلك الأيادي الْمعروقة المباركة. ولولا معرفتي بتاريخ الرجل، لقلت إن أمين نَخلة كتب “الْمفكرة الريفية” عن هذه الضيعة الريفية بالذات.
في حامات، غبتُ عن كل من وما حولي. في وقوفي عند تصوينة كنيسة مار الياس (الْمبنيّة على أنقاض معبد وثني) انفلش تحتي نهر الْجوز وسهول وجبال ووديان كأني أراها من فوق جناح طائرة. ولدى وقوفي عند تصوينة دير النورية (1880) انفلش تحتي البحر تتأنّق فيه الْجميلة طرابلس ويَمتدُّ معه النظر الى مدى بلا حدود.
على ظهر رأس الشقعة نحن، في منبسط يتثاءب حتى 10 ملايين متر مربع، في وحدة طبيعية تؤطّرها مصبّات نهر العصفور ونهر الجوز وممر باب الهوا، وفي واحة تاريخية تضم كنوزاً منذ فترة ما قبل التاريخ، مروراً بالتاريخ القديم (مراحله الفينيقية فاليونانية فالرومانية)، وصولاً الى الفترات البيزنطية والأموية والعباسية والفاطمية والصليبية والعثمانية والمتصرفية فالانتداب. وتنفحك معالِمها بعبق الْجغرافيا وريْحة التاريخ: حنُّوش (سهل ساحلي غربي لرأس الشقعة)، قلعة الْمسيلحة (من شغل فخر الدين)، كنيسة سيدة النياح (1890)، كنيسة مار جرجس (1841)، دير القديسة بربارة، دير مار سمعان (عند قمة جرف هائل يطل على البحر)، مغارة سيدة الْحرشية (في قلب الصخر)، مغاور رأس الشقعة (الغمّيق، الْمسقط، بقنيا، نبع الْحلوة تحت البحر) أنفاق الشقعة (ممر مشاة معلّق، نفق عثماني من 1909، نفق سكة الْحديد من 1942، نفق فرنسي من 1940)، الْمدارس الوقفية، بيوت الضيعة ذات الطراز الْمعماري اللبناني الأصيل (قناطر، قرميد أحمر، أقبية، عقود حجرية،…)، مداخلها ممرات (باب الهوا، وادي الصوري) وشعاب وعقبات في منعرجات جبل الشقعة الْمهيب، غاباتها سنديان وأشجار برية مرسومة نفقاً طبيعياً ولا أجمل.
وحامات (بالسريانية: “عين الْماء الْحار”) تعتزّ بأعلامها: الأديب الياس خليل زخريا (أحد أجمل أقلامنا اللبنانية)، الرسام ماكاروف فاضل (انقصف في أول ربيع العمر)، الطبيب موسى زخريا (حامل أوسمة كثيرة لِمآثره)، الطبيب توفيق فرح (رئيس بلديتها ذات فترة)، الْمحامي جورج كرم، القاضي لطيف ديب، ماري خوري سعادة (سيدة استثنائية ووالدة السيدة مي عريضة) وآخرون مِمَّن يعتز بِهم لبنان اعتزاز حامات بِهم.
يوم عرفتُ حامات من ابنها عميد خوري، أضمرت زيارتها. ويوم دعاني ابنها الآخر الْمهندس صباح أبي حنا (مؤسس “دار الْمنى” على اسم زوجته الرسامة منى)، زرتُها فالتقاني العميد والصباح وأخجلاني حين شكراني على الزيارة: لم يدريا أنهما (وأنا الناذر عمري لاكتشاف لبنان) أهْدَيَاني اكتشافي واحدةً من أجمل لؤلؤات لبنان.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*