السبت 1 تشرين الثاني 2003
رأس الشّمرة (اللاذقية)-329-
“سنة 1929، ولم تكن لدينا نصوصٌ من الأدب الفينيقي بعد سوى فقرات على أنصاب (عدا النص الشهير على ناووس أحيرام)، سقط معول في حفرة. وكما في الْحكايات يظهر الرصد وينكشف الكنْز، إذا بِمَملكة تَحت التراب تظهر لفريق العلماء (على رأْسهم كلود شيفر) فـتـنكشف الْمكتبة التي أعطت العالَم أكثر النصوص الفينيقية: مقطوعات شعرية من منـتصف الألف الثاني (ق.م.)، (أي 700 سنة قبل ظهور الْحضارة اليونانية) في آيات وصُوَر تَختصر خيال شعب اخترع، من أول الزمان، أكثر الأفكار الكبرى التي لا تزال تُلهم البشرية”.
بِهذه الأسطر النبيلة الغبطة افتتح سعيد عقل الْجزء الأول (“شُعَرا فينيقيي” – آيات وصُوَر – الطبعة الأُولى: 22/11/1967) من سلسلة “أجمل كتب العالَم” التي أصدر منها (بالْحرف اللبناني واللغة اللبنانية) سبعة أجزاء.
عادت تلك الأسطر من ذاكرتي وأنا أمشي مع دليلي بين خرائب أوغاريت (10 كلم شمالي اللاذقية) يشرح لي بِحماسة وأصغي إليه بإكبار: “كانت رأس الشمرة قرية هادئة وادعة يوم كان الفلاح محمود الْملاّ في آذار 1928 يَحرث أرضه فاصطدم معوله بِجسم صلب تعاون مع زملائه الفلاحين على سبره فانكشف لَهم ناووس حجري فتحوه فوجدوا فيه كمية من الأواني الفخارية. هرعوا يُخبرون مسؤول الانتداب الفرنسي في الناحية فأبلغ سلطته فأوفدت بعثة أثرية برئاسة كلود شيفر، باشرت فوراً بالْحفر فظهرت لَها، على 1200 متر من ذاك الناووس، مدينة أوغاريت على مساحة 36 هكتاراً. وراحت تَحسر الْمدينة عن صدرها فإذا فيه قصرٌ ملكي (على عشرة آلاف متر مربع) ذو غرف كثيرة لسكن الْملك والْحاشية والأعوان، وذو سبعة مداخل لَها جميعها أبواب وأعمدة، فيه خمس باحات رئيسة، وقاعة كبرى لاستقبال الضيوف، وجناح خاص بالوثائق الكتابية. أرض القصر مرصوفة بالبلاط، وفيه مَجاري مياه ذات هندسة معمارية منظمة، وحوض كبير للسمك في قاعة السفراء. ويعتبر الْخبراء هذا القصر بين أجمل قصور الشرق الأدنى القديم. وعام 1948، في قاعة أمانة سر القصر، اكتشف العلماء لوحة رقيم طيني عليها الأبْجدية الفينيقية التي كان الفينيقيون (سليلو الكنعانيين) يتداولون بِها مع مدنِهم الأخرى: صيدا، صور، بيروت، جبيل. وفي ما بعد عمد سكان جبيل الى تطوير هذه الأبْجدية فغدت أساساً للأبْجديات اللاحقة من آرامية ونبطية وعربية وإغريقية ولاتينية”. ويوضح دليلي: “صنع الفينيقيون سفنهم من أخشاب الأرز الضخمة في لبنان، مستخدمين بعضها للقتال، والبعض الآخر للتبادل التجاري ورحلات الاستكشاف، ما جعلهم أعظم قوة بَحرية في العالَم القديم”.
وقبل أن يودعني دليلي (بعدما جال بي على جميع خرائب تلك التلة التاريْخية) لَم ينس أن يزوّدني بشهير الأقوال عن تلك الأبْجدية، منها قول شارل فيرولو إنها “أعظم ابتكار إنساني وأعظم حدث تاريْخي للإنسان”، وقول جورج سارتون (مؤلف كتاب “تاريخ العلْم”) إنها “أعطت لكل شكل مَخرجاً صوتياً بأقل ما يُمكن من العلامات والرموز”. وأبلغ ما أسمعني دليلي من شعر فينيقي انكشف في خرائب أوغاريت: “عالية هي السماء. واصل سيرك”.