السبت 13 أيلول 2003
-322-
لَو انّك تسمَعُه ولا تراه، لَما تردَّدتَ في الظن أنه يقرأ. أما وأنت تراه وتسمعه، فيذهلك منه هذا الانسياب في الرواية، لا تلكُّؤ ولا تردُّد، لا تلعثُم ولا غفول، كأنه النهر مُدَّفِقاً بذخائره اللآلي فما عليكَ سوى التمتع بالتّلقي.
منذ درجنا على ثُلَثاءَاتنا عنده (أين منها ثلثاء مي!) ونَحن نرقب انتهاء اجتماعاتنا الأسبوعية في “لَجنة مئوية كرم ملحم كرم” (إدمون رزق، عصام خوري، ملحم كرم، سهيل مطر، منيف موسى، منصور عيد، ريمون عازار، غابي عوض، نولّي عوَض،…) حتى يقف النقيب عصام كرم ينهرنا بعبارة الْجاحظ “هيا ننطح الزاد” فنقوم الى الشرفة الْمُطِلَّة من عين سعادة على بيروت، ونتحلّق حول الزاد. لكن زادنا من النقيب عصام كرم يبقى الأطْيَبَ الأشهى، بِما نغنمه لديه من ثقافة موسوعية مذهلة ترفدها (حفظها الله) ذاكرةٌ عجيبةُ الدّقّة والأمانة في الْحفظ والرواية والتلاوة، وعند كل مَحطة يلتفت بوجهه ويده الى الداخل صوب مكتبته كما ليقيمها شاهدته على ما يقول.
وقد يبدأ فيروي ذكريات من أيام “الْحكمة”، شريكاه فيها جليسانا (الوزيران) إدمون رزق وعصام خوري، وما كان لَهم سوية مع النقيب ملحم كرم في صباه ويفاعته. وينتقل فيروي من الأدب الفرنسي شعراً من فيكتور هوغو أو نثراً من آلان بيرفيت أو مرويات عن أندريه مالرو وأدباء فرنسيين وحقوقيين كبار. ويروي بالعربية من مقامات الْهمذانِي وسيرة ابن هشام والْجاحظ وأبي حيان التوحيدي والْمتنبي وأبي تَمّام. ويستشهد ذرِباً بالقرآن الكريم والْحديث الشريف. ويروي قصصاً وحكاياتٍ ومقاطعَ طويلةً جداً من التاريخ العربي أشخاصاً وقصائِدَ ووقائعَ وأحداثاً لا يفوته منها تاريخ ولا اسم ولا رقم ولا عدد ولا تفصيل. ويروي من سعيد عقل وعمر أبو ريشة متلمّظاً أبياتِهما وتراكيبَهما الشعرية الفذّة في متعة ارتشافه الْحُسْوة النُّدرة. ويروي (حين ليس في مَجلس نساء) من “ملائح” الْخوري يوسف عون والدكتور شرابية. ويروي من الزجل اللبناني قصائد ومطوَّلات لا يُمكن حتى أصحابَها أن يكونوا مُتَذَكِّرينَها مثله. ويروي مشاهداته في بيته الوالدي عن زوّار أبيه: الياس أبو شبكة (وما كان له مع كرم من فترات مدّ وجزر بين خصومة وصداقة)، وشبلي الْملاط، والشيخ عبدالله العلايلي. ولا يفوته أن يروي كُلَّ ما يرويه بـ”طعقة” الكاف الدرزية (كما كان يسمِّيها سعيد تقي الدين) معتزاً بتربيته في دير القمر وما نشأَ عليه من توجيهات والده عن العائلات الروحية اللبنانية الْموحّدة خلقاً ومَحتداً وعلاقات شرف.
غير أن أعزّ ما تطيب له روايته، استذكار قصص وحكايات وروايات ونوادر وطرائف وأحداث من حياة والده العبقري الاستثنائي كرم ملحم كرم، فيسرد ذكريات له ولشقيقه ملحم مع والدهِما الغالي، ويكرر لنا إصرار الوالد عليهما أن يُجانبا القاموس حين يقرآن ويكتبان، وغالباً ما كان يشير عليهما بِما يقرآن، عربياً وفرنسياً، الى تفاصيل أخرى من حياة كرم اليومية، أديباً موسوعياً، وصحافياً عجيب الغزارة، ووالداً فائض الْحنان.
تنتهي السهرة فيواعدنا النقيب عصام الى الثلثاء التالي، وهو لا يدري أننا، بانتهاء “مئوية كرم” (نهاية 2003) سنشتاق إدماننا على اثنين اخترقا لذة نسيجنا الأدبي: الاجتماع الأسبوعي و”مَجلس النقيب”.