السبت 5 تَموز 2003
– 2 1 3 –
4 تَموز: عيد مولد سعيد عقل عام 1912
أمس أنْهى الثانية والتسعين (يا أطال الله عمره) واليوم يبدأ سنة جديدةً من عطاءاته، زاخراً بِحماسةٍ دائِمة للعمل من أجل لبنان، وللكتابة من أجل الشعر، وللسعي من أجل الْجائزة بَحثاً عن مواهب جديدة في سبيل لبنان.
يعرف العالَم شعراء يلهثون وراء الْجوائز، يستعطونَها، مداورةً أو مباشرةً، مرة من “طويل العمر”، وأخرى من دولتهم، أو يقفون على أعتاب الْحكّام باسطين بضاعة نظمهم لعل الْحاكم يتصدق عليهم. لكن العالَم لَم يعرف شاعراً يَمنح من مدخوله الْجوائز، ويظل يعتذر من الْممنوحين بأنّ جائزته ما زالت دون إضماره.
هذا الأسبوع منح (لزميلنا الْحبيب جوزف أبي ضاهر) جائزته الأسبوعية الواحدة والْخمسين بعد الْمئة. ها هو إذن: 151 مليون ليرة رصدها تشجيعاً لِمواهب لبنانية، ولكان سواه (من الْميسورين طبعاً) وظّف هذا الْمبلغ في مصرف أو مشروع فعاد الْمبلغ إليه مضافاً عليه حجم الفائدة. أما هو، سعيد عقل، فلا الْمبلغ يغريه أن يوظفه في مصرفه أو في مشروع، ولا فائدة يرجوها منه سوى أن يفيد موهبة لبنانية بتشجيعها على مزيد من عطاء.
لِماذا جائزته؟ “لكي نَخلق الكرم” يقول، ولكي يصبح الكرم معدياً في الوسط الثقافي (فيتكارم الْمثقفون ولو بسلوكهم) وفي الوسط الصحافي (فتكتب صحفنا عن بادرات عطاء). إيْمانه أن الكرم ذو عدوى، وهو يقسمه ثلاثة من الأدنى الى الأرفع: كرم أصابع (التصفيق)، كرم قلم (الكتابة)، وكرم جيب (الْمال).
هكذا يوظِّف سعيد عقل وقته للتفكير بالإيْجابيات مانِحاً إياها من دخله ما يستنهضها لدى الآخرين. ولن ينال الْجائزة من كتب يوماً بشاعة واحدة، ولو عاد فأتبعها بإيْجابيات. بلى: يستحق الْجائزة من لَم يشتغل بالسلبيات. ويَحضرني هنا موقف شهير لأنسي الْحاج عام 1975 (يوم حرضه حاقدون أن يرفض جائزة سعيد عقل عن رائعته “الرسولة…”) إذ قال أنسي: “منذ أَربعين عاماً وسعيد عقل يرفض أن يتبشَّع”. وكان أنسي على حق. وها نَحن اليوم، وسعيد عقل يلج الثالثة والتسعين من عمره، نشهده لا يكتفي برفض البشاعة، بل يبحث عمن لا يتعاطاها، كي يتعمم في لبنان العمل على الْجمالات والإيْجابيات، انطلاقاً من فضيلة رئيسة: الكرم. وهو يضيف لَها اثنتين: الْجمال والشجاعة. ولا ينفك يردد لنا: “متى كان الصح معكم لا تَخافوا من الغلط”.
وها نَحن لن نَخاف. ونَجهر أن تاريْخ الأدب لَم يعرف شاعراً يعطي من دخله جائزة أسبوعية لتكريْم الْموهوبين والْمبدعين ومن يؤمنون معه بأنَّ مبلغاً ضئيلاً من الْمال مضافاً الى فكرة كبرى يُمكنه أن يَخلق وطناً خلاَّقاً ينهض بدولته من العادية (ذات السياسة اليومية الضيقة) الى الصدارة (ذات الرفعة الْحضارية الوسيعة).
الذين يظنونني قريباً من جائزة سعيد عقل (مع شدة قربي منه شخصياً) فليأخذوا الْمفتاح لنيلها: ابتعدوا عن البشاعات والسلبيات واكتبوا في الإيْجابيات والْجمالات. أكتبوا عن موضوع أو شخص أو كتاب، لا فرق، إنّما اكتبوا بإيْجابية فيها حب ونقاء، وفيها كرم جود وجودة وعاطفة بيضاء، حتى تنالوا الْجائزة ولا وسيط. الْجودة ذات عدوى والبشاعة ذات عدوى. فاختاروا أن تكونوا بشعين أو طيبين، وعندها الْجائزة نفسها تبحث عنكم.
اليوم يدخل في الثالثة والتسعين. العمر له. والفرح لنا. والْمجد للبنان الذي ما زال سعيد عقل يسنده بكتفه ولو انْحنت، وبعقله الذي ما زال يعلمنا ثالوث الكرم والتكريم والكرامة.