السبت 26 نيسان 2003
– 2 0 3 –
كنا نودُّ أن نطرح هذا الْموضوع، من دون أن تكون بغداد، بغداد التراث والتاريْخ والْحضارات الأولى، وقعت تَحت النكبة الكارثية الْهائلة بِما تعرَّض له متحفها التاريْخي من سلب ونَهب وحرق وتسييب، ما أعادنا الى جريْمة الْمغولي هولاكو بإحراقه مكتبة بغداد (1258) وافتتاحه عصر الانْحطاط الْمظلم بعد العصر العباسي البهي الإشراق.
أما والكارثة وقعت، وهولاكـيُّو العصر اجتاحوا أو شاركوا أو وقفوا على الْحياد (لَم يتدخلوا في ما كانوا يعاينون لأنه لا يعنيهم ولا أوامر لديْهم بالتدخل)، فإننا، خارج البكاء والنواح والنحيب وسائر القاموس الذي اعتاده العرب في التسابق الى رثاء أعلامهم وأعمالِهم ومعالِمهم، ما لنا إلاّ التأمّل، كما عند أية مصيبة داهِمة، كي نفهم ونتّعظ: نفهم أنّ ما حلّ ببغداد (وأضاع الذاكرة) يُمكن أن يَحلّ بنا في أي مكان وزمان، ونتّعظ بأن نَهرع ونسارع ونبادر الى جَمع تراثنا وفهرسته وأرشفته والْحفاظ عليه كما يليق الْحفاظ على التراث والآثار. فهل نَحن فاعلون؟
منذ بدء اشتغالي على جَمع تراثنا اللبناني – أعمالاً وأعلاماً – لـ”مركز التراث اللبناني” (في الْجامعة اللبنانية الأميركية) وأنا أعانِي وأعاين ما أعتز بِجمعه من ناحية، ومن أخرى ما يوجعني أنه بقي متروكاً حتى اليوم الى أن جئت أطلبه من أولاد أصحابه أو أحفادهم، فأنبشه مرةً من قبو مهجور تَحت البيت، وأخرى من تتخيتة هي مرتع للحشرات والرطوبة والعفونة والدلف والتلف، مع ما في ذلك من تلف لذاكرتنا الوطنية التي وحدها تنقذنا من أي خطاب إحادي.
أعلامنا الذين غابوا، قلائل منهم نعموا بأن يَحفظَ تراثَهم أبناؤُهم أو أحفاد أو أنسباء أو مهتمون، وكثيرون منهم ترزح آثارُهم (مَخطوطات، مؤلفات، أوراق، مذكّرات، رسائل، أغراض، وثائق، …) ضائعة تَحت غبار السنوات إن لَم تكن من زمانٍ أخذت طريقَها الى براميل الْمهملات. إن الذاكرة التراثية دماغ الوطن، حيثما تكون يكون عنوان الدولة.
الْحل؟ مؤسسات أكاديْمية رصينة كـ”مركز التراث اللبناني” (في الْجامعة اللبنانية الأميركية) يَحفظ الآثار بأعلى درجة من الْحفظ العلمي والْحفاظ التوثيقي والْمحافظة الْممكننة (أرشيف يتفهرس في الكومبيوتر فإلى الْموقع الإلكتروني)، أو مؤسسات رسْمية كـ”مؤسسة الْمحفوظات الوطنية” التي يطرح الصوت يومياً مديرُها العام/ رئيس مَجلس إدارتِها الصديق فؤاد عبيد ليرسل أصحاب الآثار نسخاً منها أو أصليّها الذي تتعهد “الْمؤسسة” حفظه أو تصويره أو ترميمه أو على الأقل تسجيله والإرشاد الى مكان وجوده، وليس من يستجيب. وفي رأْس قائمة الإشاحة وعدم الاستجابة: الدولة نفسها التي لَم تُهيِّئ بعد لِهذه الْمؤسسة الرائدة الْمهمة عندنا مكاناً لائقاً بِها ولا تَجهيزات ضرورية للقيام بِمهماتِها.
لا نعرف وضع الْمكتبة الوطنية، وهل خرجت مُحتويات صناديقها من الْحجْر أم انّها لا تزال (كـ51 كرتونة مرمية على مرفأ بيروت ينام فيها العفن والسوس) تنتظر بادرة “رسْمية” غير روتينية الإدارة لإنقاذ ما فيها من كنوز نادرة.
ومؤخراً تأسست (بناء على طلب منظمة الأونسكو الأم في باريس) لَجنة وطنية لبنانية لبرنامج “ذاكرة العالَم” (من اللجنة الوطنية للأونسكو ومؤسسة الْمحفوظات الوطنية ووزارة الثقافة)، عسى أن تنجح في إنقاذ تراثنا بتسجيله وحفظه.
الْمطلوب توعية إعلامية على تراثنا الوطني لِجمعه وتوثيقه والْحفاظ عليه ذخراً لأجيالنا الْمقبلة (هل يَجوز مثلاً أن تكون الْجريدة الرسْمية في لبنان موزعة على أكثر من مكان وغير مَحفوظة في مكان واحد يُمكن الرجوع إليه؟).
وعي تراثنا (لا السياحي، فهو من هبة الله، بل البشري من صنع الإنسان اللبناني) يُجذّرنا بوطننا فتَجتمع أجيالُنا على تراث واحد لوطن موحّد لا نعود نَخاف عليه أن يُهاجِمه هولاكو العصر وأي عصر.