السبت 3 أيار 2003
– 3 0 3 –
أطرف ما قالت الشاعرة العراقية لَميعة عباس عمارة، فترةَ كانت بيننا في بيروت (قبل عامين): “من أجْمل ما أُحب في لبنان: سَماعي عبارة “الرئيس السابق” للجمهورية، وهي التي لا أسْمعها في أية دولة عربية”. ومع كل ما في هذا القول من طرافة، فيه من الْحرقة والوجع والغرابة ما يُميّز، حقاً، لبنان عن دول الْجوار والْمنطقة وهذا الشرق العربي. ولعلّ هذا ما كان، بين ما كان، من أسباب نشوب الأنياب والأظفار والغيلان والديناصورات حوله طوال سبع عشرة سنة حاولوا خلالَها إماتته بشتى أنواع الْموت، فانتصب من تَحت كل الرماد والدمار، بَهياً كما كان، قوياً كما كان، حقيقياً أعجوبياً متميّزاً متفرداً كما هو من أول الزمان.
هل سيتاح للميعة عباس عمارة أن تقول هذا القول، بعد لبنان، عن عراقها قريباً حين يستتب فيه الأمن “الْموعود” وتظهر فيه “ديْمقراطية” جورج دبليو؟ لا نستعجلنّ الأمر، فالديْمقراطية الـ”مفروضة” فرضاً ليست سوى قناع ديْمقراطي مَحلّي يُخفي وجهاً “أوتوقراطياً” مستورداً. والشعب، حين يتحرر من التوتاليتاريا، يرفض الفرض ولا يرضى إلاّ بِما يبنيه هو من ديْمقراطية، بالنضال، بالْحوار، بالاستشهاد، بالْمفاوضة، لكنها، على أي حال، تكون نابعة منه لا “مفروضة” عليه.
هكذا لبنان (ونَحن نتهيّأ بعد أيام للاحتفال بذكرى شهداء 6 أيار ومعهم ذكرى شهداء لـلصحافة اللبنانية كان قلمهم أمضى من كل سلاح) لَم ينل ديْمقراطيته من عثمانيي الأربعمئة سنة، ولا من انتداب العشرين سنة، ولا من حرب السبع عشرة سنة، بل نالَها من رفضه كل هيمنة وانتداب واحتلال وسيطرة، فإذا ديْمقراطيته نابعة منه لا “مفروضة” عليه، وهي ما يسعى، بِمخلصيه الأحرار، أن يبقي عليها مرفوع الرأس غير هياب مقولة “عند تغيير الدول إحفظ رأسك”.
وها نَحن اليوم، عملياً وفعلياً وميدانياً، على عتبة “تغيير الدول”. لكننا – وليس لأي سبب تكتيكي أو استراتيجي أو مرحلي أو تنسيقي – لن “نَحفظ” رأْسنا بـ”تغيير” ديْمقراطيتنا التي نشأْنا عليها ومن أجلها استشهد لنا أجداد وآباء واستقلاليون وصحافيون ماتوا لتعيش الْحرية في لبنان، ولن نرضى بأيّ تبرير تفرضه علينا “السياستولوجيا” العربية أو الإقليمية أو الدولية لكي نتنازل عَما ظللنا لا نتنازل عنه حتى انسحب عن أرضنا عدو كان اسْمه “الْجيش اللايقهر”.
إذا كان “تغيير الدول” سيفرز تغيير أنظمة مُحيطة بنا نَحو الأفضل، فهذا شأْن هذه الأنظمة أن تتأقلم مع “التغيير” أو تتعامل معه كما ترتإي. هذا لا يعني نظامنا لأنه أساساً مثال لِما يسعى إليه التغييريون. أما إذا كان التغيير يعني “تَهويد” الْمنطقة بـ”عولَمة” عسكريتارية تَحوطنا وتَجعلنا نرضخ لِما لا نريد، فهذه لن تكون أول فترة يواجه فيها شعبنا ما يرفض. وهذا اللبنان الذي كان عصياً على هولاكيي كل عصر، لن يعوزه أن يكون عصياً على هولاكو هذا العصر وأي عصر.
صحيح أننا، كأقلام حرة من صحافة حرة في نظام حر، كثيراً ما نُهاجم دولتنا ونفضح مثالبها ونقسو على أوليائها في الْحكم لأنّهم غالباً ما يستحقون الْمهاجمة والفضح والقسوة. أما حين يتعلق الأمر بالنظام وما يُحاك له من تبعية أو تنسيقية أو تَخضيعية، فإننا نرفض وننتفض ونقف جَميعنا وراء نظامنا – ولو ضد ساسته عند اللزوم – لأن النظام ملك الشعب لا ملك الْحكام، والباقي هو هذا النظام لا هؤلاء الْحكام. فليؤمن العروبيون بعروبتهم، والقوميون بقوميتهم، والأمَميون بأمَميتهم، والوحدويون بطوباويتهم. نَحن نؤمن بالواحد الوحيد: النظام اللبناني، لا متقوقعين فيه بل ناشرين إياه على كل الْمنطقة كي تتعلم هذه الْمنطقة أن هذا اللبنان الذي لَم تَهرع إليه في ضائقته، يَمد لَها في ضائقتها نَموذجاً من شعب ونظام وكيان، حجمه كقاعدة الْمنارة لكن فعاليته كنور الْمنارة من آخر البر الى آخر البحر.