17 شباط 2003
– 2 9 2 –
كان يَسرق هُنيهاتٍ من مسوياته، بعد طول نَهار مرهق في ملاحقة مقاولاته الكبيرة والناجحة، فيدلف الى شاطئ ذاك البحر الْخليجي، يتأمّل البحر عن رمله الناعم، أو يستلقي في مركبه الصغير ويتحسس آخر لُهاث الْموج يهدهد الْمركب بلا انقطاع، كما ليدعو راكبه أن: “كفى، عُد الى الـبر تسترِح من الاهتزاز”.
يستريْح؟ يعني ليس في البحر راحة، بل هو زمن مؤقت للعبور من بر الى بر، لا استقرار فيه ولا سكن. وهنا سكنته فكرة أُولى: “لِماذا لا يكون في البحر سكن دائِم، كما في الْجزر التي تستوطن البحر”؟ ثم فكرة ثانية: “لِماذا لا تكون سُكنى البحر ثابتة بدون هزهزة الْموج مثلما الْجزيرة ثابتة”؟ ثم فكرة ثالثة: “السفر في الْمركب أو السفينة، جلسة في صندوق صغير أو كبير لكنه معرّض لِخطر الْموج. فلماذا لا يكون سطح السفينة واطئاً بِمستوى مياه البحر من دون التعرض لِخطر انقلاب الْموج على السطح الواطئ؟”، ثُم فكرة رابعة: “الْحياة في الْجزيرة آمنة، وشطّ الْجزيرة بِمستوى مياه البحر، فلماذا لا يُمكن ابتناءُ جزيرة عائمة تكون في مأْمنٍ من خطر الْموج؟”.
حَمل هذه الأفكار جَميعها، وعاد من مقره الْخليجي الْمؤقّت الى وطنه الدائِم لبنان، فانزوى في بلدته “الـبِـنَّـيْـه” (بكسر الباء وتشديد النون الْمفتوحة وتسكين الياء والْهاء) مطلاًّ من قمتها الْجميلة على بلدتَي عبيه وبيصور التاريْخيَّتين، ومفكراً في أمر جلل: الفينيقيون أسسوا للملاحة وعلوم البحر، ومن يومهم لَم يقم جديد. وإذا الفينيقيون أجداده حقاً، فلا بد أن يقوم هو بتشريفهم في ما به يواصل الأحفاد عمل الأجداد من رفد الْحضارة.
380 يوماً قضاها متنسكاً في “البِـنَّـيْـه”، منعزلاً عن كل ما وكل من، مقفلاً على مشروعه، مقتصراً في منسكه على الْمهندسين وخبراء جاء بِهم يتنسكون معه، يفكرون معاً، يُخططون على الورق، ينفذون على الأرض، حتى خرج معهم في نِهاية تلك “الفترة النسكية” بنجاح مشروعه/الْحلم: ابتنى جزيرة عائِمة من 430 × 480 سنتم (بنسبة 1/10 وبِحسب الْمقاييس البحرية التي كان خطط لَها على الورق) أثبت أنّها لا تَهتزّ مهما علت الأمواج وطغت وهاجت، بل تبقى الْجزيرة العائمة ثابتة لا تتحرك، كما أَشارت جَميع أرقام الْهندسة البنائية التي تَجمّعت له وللخبراء. كما ثبت له أن سطح الْجزيرة الذي علا سنتيمترين فقط عن سطح الْماء، حَمل طنّين اثنين ولَم يغرق ميليمتراً واحداً ولا تأثرت الْجزيرة بِهياج الْموج، بينما طاح مركب صغير كان على صفحة الْماء نفسها.
ولكي يَحمي اختراعه، سجّله في وزارة الاقتصاد اللبنانية – مصلحة حِماية الْملكية الفكرية (تَحت اسْم “الْهندسة الْمتطورة للجزيرة العائِمة” وتَحت الرقم 7210 تاريْخ 22/1/1998) وهي الأُولى منذ عهد الفينيقيين.
وما نَجح اختراعه حتى استيقظ ديناصوريو الْحسد واتّهموه بـ”الْجنون” وطوّقوه بالْمضايقات فحمل اختراعه ومشى. ولَم يكد يعرضه على دولة خليجية كبرى حتى تلقفته ووقَّعت معه عقداً بِمبلغ خرافي، فبدأ العمل على “جزيرة عائِمة” ستربَحها تلك الدولة واحة سياحية فريدة، وتباهي العالَم بريادتِها ونسبتها إليها.
عبدالله ضو، وقبله حسن قرصيفي (“أزرار” 290)، وقبلهما علي عاكوم، وقبلهم حسن كامل الصبّاح، وبعدهم سيأتِي لبنانيون آخرون يضيق بِهم الأفق اللبناني فيهاجرون الى دول تعرف قدْرهم، تتلقّفهم، وتفتح لَهم الأفق الوسيع، فتتبنّى اختراعاتِهم باسْمها، وتربَحهم هي، ويَخسرها ويَخسرهم لبنان.