السبت 16 تشرين الثاني 2002
– 279 –
عاد من باريس مطلعَ هذا الأسبوع، بعدما أمضى فيها أسبوعين يزور ابنـته العروس. وأخبَرَنِي، وأخبَرَنِي…
هي ليست زيارته الأولى، بل يكاد يعرف باريس بتفاصيلها لكثرة ما زارها. إنّما، هذه الْمرة، وتكريْماً لزيارته، اصطحبه صهره والعروس الى منطقة بعيدة 1000 كلم عن باريس، تسمّى “مُجَمّع قُرى السِّحر والْجمال”. وتسمّى هكذا لأنّها ترقى الى القرون الوسطى (الثاني عشر حتى الْخامس عشر) ولَم تَمْسَسْها يدُ الْمعاصرة الْمدِينِـيَّة بعد، فهي كما كانت منذ قرون، تُحافظ على بيوتِها ومشهدها القروي البكر. ومنها ما لا يتعدّى عدد سكانِها الْمئة نسمة. ومع ذلك (أردف لِي بتشديد) عند كل ناصية ومفترق وطريق وتقاطع، إشارات سيْر كاملة يَحترمُها الْجميع تلقائياً – سكاناً وضيوفاً وسياحاً – من دون رقيب ولا خوف من “رادار” أو شرطي سير. ذلك أنّ احترام قوانين السير وإشاراته في تلقائية التربية هناك منذ السنوات الْمنْزلية والْمدرسية الأُولى.
وبالعودة الى باريس، أخبَرني أنه (وهو الْمثقف الراقي، إنّما لضيق وقته وقصر مدة زيارته) لَم يستطع أن يشاهد إلاّ ثلاث مسرحيات تَمكّن صهره من تأْمين مقاعد فيها. وفوراً سأَلْتُهُ في لَهفة: “أكان ذلك في عطلة نِهاية الأسبوع؟” فأجاب: أبداً. لَم يكن ذلك مُمكناً. بل في أيام منـتصف الأسبوع”. ثُم سألْتُهُ في لَهفة أسرع: “والْجمهور؟ أكان كثيف الْحضور؟”، فأجابنِي بـبساطة كثيفة وسريعة: “في باريس نادراً ما يـبْرز هذا السؤال. طبعاً كانت الصالات ملأى، وبِحجوزات مسبقة قبل فترة”.
وأخبَرنِي كذلك عن معارض رسم ونَحت تيسّرت له زيارتُها، ومشاهدات ثقافية أخرى، كعادته كلما عاد من رحلة الى الْخارج، ومعظم رحلاته ذات طابع ثقافي عمرانِي. غير أنني، بين كلِّ ما روى لِي، ظلت تستوقفني روايتان: إشارات السير في الضيع النائية، وامتلاء صالات الْمسرح.
ذلك أنني أفكر بِما عندنا: فَنَحن، لا في الضيع والقرى والأرياف النائية، بل في عز دين هذا الْمسمى الـ”داون تاون”، يعني في قلب العاصمة، يعني في نص ساحة البرج التي باتت من أجْمل الساحات العامة (لولا هذه التماثيل الْحديدية البشعة التي تطالعنا فيها بين وقت وآخر)، لا يُعير السائقون (ومعظمهم من الشباب الأرعن الطائش) أيّ احترام لإشارات السير، فيجتازون على الضوء الأَحْمر بعدما يكيلون السباب لِمن يقف أمامهم ويسدُّ عليهم الطريق. علماً بأن هؤلاء الطائشين بالذات لا يتجاسرون على فعل ذلك في أية دولة أخرى من العالَم. أما لِماذا يتجاسرون في قلب بيروت، فلأن قلب بيروت خالٍ من الْمحاسبة الْمرورية الصارمة التي تردع طيشهم ورعونتهم.
وأُفكّر بالْمسرحيين الذين يشهدون تنامي الوطن بكثرة الْمطاعم وكثافة إقبال “الْجمهور الْحبيب” عليها وعلى ما فيها من أطايب ومن فيها من صيصان غناء وقبابيط رقص وتَهريْج، فيما الْمسرح عندنا يغطّ في سبات قد يصبح (إذا استمَرّ كذلك) نوم أهل الكهف، فيندار مسرحيونا الى البحث عن عمل آخر أو عن أَقرب سفارة تَمنح تأشيرة دخول الى دولة يقتطع أهلُها وسكانُها من ميزانيتهم لا للمطاعم بل لبطاقات الْمسرح والْموسيقى والأوبرا.
شعبنا عظيم؟ نعم. إنّما علينا أن نواصل إرث الشعب العظيم فنكون على مستوى ماضينا العظيم وأمْجادنا الراقية، لا أن ننام على ماضينا وأمْجادنا ونترك جيلاً ينشأ أرعن طائشاً أمّياً قليل الأدب والْحياء يودي بنا الى مستقبل طَرحٍ هجين.