السبت 9 تشرين الثاني 2002
– 278 –
كان في الثانية عشرَة يوم تُوُفِّي والده. ولَم يكن لوالدته معيل آخر، ولا مُعِيْن على تنشئة عائلتها الصغيرة، فلم تَجِد بُداً من العمل. واضطرّت، بِمرارة الأم الْحنون الْمكسورة الْجناح، الى الطلب من ولدها (ابن الثانية عشرة) أن يعمل صيفاً كي يَجمع بعضاً من قسطه الْمدرسي في الشتاء. ولَم يُمانِع الفتى الفاقد حنان الأب، فوجد عملاً (خادماً) في فندق فخم (يومها، منذ نَحو نصف قرن) في أحد الْمصايف اللبنانية الشهيرة.
غير أن العمل لَم يكن سهلاً. كان الفتى الأنوف يتعرض كثيراً للإهانة والإهْمال، من صاحب الفندق ومن موظفيه وعماله، وكذلك (طبعاً) من نزلائه، ينهالون جَميعاً بالنهر والإذلال على فتى مسكين يشتغل كي يكسب لقمته وقرشاً صيفياً أبيض لليوم الشتائي الأسود.
وذات ليلة، تضافرت الإهانات على الفتى من جَميع الْجهات، فلم يأْتِ منتصف الليل ويأوِ الى غرفته حتى أخذ الدمع غير الإرادي يَجلُد ما بقي من عافيته بعد إرهاق النهار الْمضني. ليلتها لَم ينتبه، بعد غيبوبةٍ في القهر والدمع، إلاّ وخيوط الفجر تتسلل من شباك غرفته الْحقيرة حد الْمطبخ والْحمّامات ومرمى القمامة. فاجأَه طلوع النهار. مسح دموعه عن جفنيه الْمتورّمين، وبِمثل صحوة الضوء من غفلة العتمة، صحا فيه فجأة شعور غريب: “انتقامي من كل ما يَجري سيكون أن أكبر وأعمل وأجني مالاً كثيراً، بتعبي وشرفي وضميري، وأن… أشتري هذا الفندق بالذات. فاشهد عليّ يا رب”. وقام الى عمله، منهكاً من أرق، ومصمماً من يومها على تَحقيق “انتقامه”.
اليوم، يرفل هذا الفندق بضخامة وأناقة وفخامة في شكله وغرفه ومدخله، كما في جهازه البشري والتقني، كما يرفل بِحضور صاحبه، الْمحامي الناجح اللامع الْمثقف الْمهذّب، الذي لا يعرف إلا القليلون قصته يوم نام باكياً ذات ليلة من صباه في هذا الفندق بالذات، وأضْمر أن ينتقم من قدره القاسي بتوفير قدر مريْح لْموظفيه وعماله.
وفي بلدةٍ اصطيافية أخرى من الْجبل اللبناني، كان فتى يساعد صيفاً أباه الْمقاول في الضيعة، الْملتزم بناء حفافي الكروم الْمنتشرة على تلك التلة الْجميلة الْمشرفة من جهة على بِحر بيروت ومن الأخرى على مصايف الْجبل. وكان يدمِّره تصرف صاحب الأرض مع الوالد الْمقاول، ما ينعكس انكساراً نفسياً على الولد الذي كان يَمشي مسافاتٍ مُحرقةً تَحت شَمس الصيف ليحمل الى العمال جرة الْماء فيشربوا ويكملوا العمل بإشراف والده.
وذات ظهيرة حارقة، فيما كان عائداً من الضيعة الى ظاهرة تلك التلة، وقف من بعيد، نظر إليها، وأضمر في قلبه الطَّمُوح وصباه الناهد الى الرجولة: “سأنتقم لأبِي ولِي، وسأكبر وأعمل وأجني مالاً كثيراً، بتعبي وشرفي وضميري، وستكون هذه التلة يوماً من مُمتلكاتِي”.
اليوم، تَهنأ هذه التلة في تلك الضيعة الاصطيافية، بتألُّقِها الْجميل تَحت الشمس، مستذكرة صاحبها الشاب الذي قصفه القدر في ربيع العمر، إنّما بعدما حقق”انتقامه” الطَّموح واشترى تلك التلة وأورثها خَيراً لأسرته من بعده.
قصتان عن طموح لبناني يبلغ القمم بالْجهد والْجدية، سَمعنا عن أصحابه، في لبنان أو في دنيا الانتشار اللبناني، حققوا نَجاحات غير عادية، وبلغوا القمة بعدما كانوا يَمشون على سفحها مقهورين شبه حفاة. وقد تكون أحدثَها زمناً، قصة فتى طَموح كان، ليسعف والده الْحاج، يعمل صيفاً في جَمع الزيتون ليؤمّن قسط مدرسته شتاء، وبلغ القمة اليوم بأن أصبح لا مُجَرّد رئيس حكومة في وطنه، بل شخصية عالِمية ذات بُعد دولي.