14 أيلول 2002
– 270 –
تقهرُ هذه النهاية (ولو منتَظَرة). تقهرُ كل نِهاية (ولو حتمية). وكنا بعيدين عن هاجس الفراق، عند جلساتِنا الأخيرة في جل البحر (عند ابنها سرمد) أو في بعبدات (عند ابنتها سناء). ربّما لأنّها كانت على صفاء هادئ (يشبه شيخوختَها الْمبارَكة) وعلى تساوٍ متعادل مع عمرها الْمهني الطويل (بِهدوء صوتِها الرخيم، وهدوء أسلوبِها البسيط بدون ضعف، الأُفقي بدون تسطيح). ومن ذاك الصفاء في الْحديث والذاكرة، كنا نقطف لِجلساتِنا حلاوة الكلام.
صحيح أنَ “غيابَها ليس رحيلاً”، كما قالت إملي نصرالله، الرائعة إملي، الوفية إملي (في “نَهار” أمس وفي الكنيسة) لكن هذا الـ”ليس رحيلاً” موجعٌ حتى القهر، لأن مِن الْمبدعين مَن لا يشبههم أن يَموتوا.
إدفيك، كانت حياتُها صفحةً مفتوحةً أمامنا كلما جلسنا: ترمُّلُها الْمبكّر، كفاحُها في الْحياة وحيدةً لتنشئة سرمد وسناء (حدود حياتِها طوال حياتِها)، دراستُها الْجامعية لِحث سرمد على الدراسة الْجامعية، أيامُها في مطالعها الوميضة النبيلة مع أنطون سعادة (كما ظهرَت من رسائله إليها)، أطروحتُها عن سعيد تقي الدين، لقاؤُها فؤاد سليمان وتأثيرُهُ فيها مناقبياً وصحافياً، تسلُّمُها “صوت الْمرأة” بِضمير مهني وصحافي وأدبي ونضالي نسائي واع، عملُها الإذاعي (اليومِيّ الْمضني) في “دنيا البيت” الذي كان صوتُها فيه طريق الكثيرين والكثيرات الى البيت والْحب والسعادة، لقاؤُها يوسف الْحويّك وأضواء جديدة ألقتها على جبران في باريس (قبل سنوات طويلة من اكتشاف رسائل ماري هاسكل وجبران وقبل “أضواء” توفيق صايغ عليها و”أضواء” فرجينيا حلو ناشرة الرسائل في نيويورك)، مؤلّفاتُها التي قالت في النثر الْجمالي جديداً (“بوح”،”شوق”)، وقالت في أدب النشء والتربية نضارةً (وَكم كانت مرتاحة، في السنوات الأخيرة، الى استلام عبده وبيار لبكي إعادة نشر قديْمها ونشر جديدها في “دار الإبداع – الْحرف الذهبي” وما تلْقى لديْهما من معاملة راقية وأناقة نشر وبراعة توزيع، وهو ما أعادها الى نشء جديد لا يعرف إدفيك شيبوب تلك الأيام).
صفاؤُها، إدفيك شيبوب، كان لافتاً في تلك الْجلسات الأخيرة إليها. وهو لا يشبه كثيراً ما قامت به من دور عظيم للمرأة في لبنان، برامجَ ومؤتَمراتٍ ومَجلساً نسائياً وكفاحاً كتابياً وترقيةً نسويةً تَجعل الْمرأة اللبنانية اليوم على مستوى ما كانته أيام كانت الْمرأة اللبنانية في التاريْخ مثالاً للجبين العالي والْهيبة الإليساوية.
قلمٌ وقلبٌ، إدفيك شيبوب. ولعل قلَمها النضر البهي الراقي، أصدقُ ترجَمةٍ لقلبها الكبير الذي كان عنوان حياتِها وعنوان مؤلفاتِها وعنوان صداقاتِها (القليلة على انتقاء، الصافية على وفاء). وهذه علامة الْمرأة الاستثنائية.
“غيابُها ليس رحيلاً” قالت إملي نصرالله؟ صحيح. كأنّها اختصرَت غصتنا جَميعاً، العزيزة جداً إملي، ابنةً روحيةً لإدفيك، وأختاً لنا في بُنُوَّتنا لِهذه الْمبارَكَة الطّيّبَةِ التي ودّعناها أمس بِهدوءٍ يشبهها، إنّما كذلك بعاصفة حب كان يسكن قلبها في بَهاء زنبق وشَـميلة نار.