السبت 7 أيلول 2002
– 269 –
يوم اجتمعتُ مؤخراً بالسفير فريد أسطفان الذي، من نبله العالِي، تكرّم بإهداء “مركز التراث اللبناني” (في الْجامعة اللبنانية الأميركية) تراث عَمه حبيب أسطفان كاملاً، بدءاً من كتابه هو “حبيب أسطفان رائد من لبنان” (دار لَحد خاطر-1983) وراح يشافهُنِي بصفحاتٍ من سيرة عمّه الاستثنائي، تكشفت لي شخصية لبنانية عظيمة كنت عميق الندم أننِي لَم أكتشفها قبلاً، وأنا أبْحث بيْن أعلام بلادي عن عظماء كانوا في أساس بنية لبنان اللبنانية.
وإذا أنا أمام صاحب قامة لبنانية هائلة (بتاتر 1888-البرازيل 1946) بدأ حياته كاهناً (باسم الْخوري يوسف) خادم كاتدرائية مار جرجس الْمارونية في بيروت (يوم عاد من روماً “ملفاناً” كان يَحمل رسالة من دوائر الأب الأقدس جاء فيها أنه “هدية الفاتيكان الى الطائفة الْمارونية في لبنان” كما ذكر فؤاد أفرام البستاني في الْمجلد 13 من “دائرة الْمعارف”) لكنه “خرج عن السرب” في عظاته فاستقطب الْمئات الى الكنيسة يصغون الى خطبه السياسية العاصفة في اللبنانية والوطنية ضدّ السلطنة العثمانية، ومنها قصيدته “جلاء الترك” (1918) ما أزعج رؤساءه الدينيين (على رأْسِهم مرجعه الْمباشر الْمطران مبارك) فنضا عنه ثوب الكهنوت غير متردد، وعاد العلماني حبيب أسطفان يَجهر بلبنانيته في وجه العثمانيين والْمحليين الْمتعثمنين، ثم في وجه الفرنسيين الْمنتدبيْن والْمحليين أزلامهم الْمتفرنسين، منادياً ما بسوى لبنان اللبناني، مترئساً أول مَجمع علمي في دمشق، متلقياً دعوة لترؤس تَحرير “الأهرام” في مصر، منسقاً مع نعوم مكرزل مؤسس “النهضة اللبنانية” في نيويورك، ومطلقاً فكرة “حزب الشبيبة اللبنانية” في بيروت مع صديقه الشاعر بشارة عبدالله الْخوري والشاب رياض الصلح (عرفه في “برق” الأخطل الصغير)، وداعماً “فرسان الْجمعية اللبنانية” في باريس، ومنسّقاً مع شباب “الاتّحاد اللبناني” في القاهرة والإسكندرية، تَحفزه دائماً “حُمّى الْجذور والأصول” اللبنانية (كما يقول عنه صديقه وتلميذه يوسف ابرهيم يزبك).
وحيْن وجد التحرك في لبنان (بسبب مضايقات “الأجهزة” فيه) بات غيْر فعال، انطلق الى الْخارج حاملاً رسالة لبنان اللبنانية الْحضارية الْمنفتحة، غيْر الْمتزمّتة دينياً ولا الْمتعصبة وطنياً، وراح يطلقُها عواصف راعدة مطالبةً باستقلال لبنان التام ضد الْخانعين في لبنان من مداهنين ومراوغيْن ومصلحجييْن وطالبِي انتداب فرنسا أو الانضمام الى سوريا، مُحاضراً (بالعربية والفرنسية والإنكليزية والإسبانية) على منابر كوبا والولايات الْمتحدة وأسبانيا والأرجنتين والْمكسيك والبرازيل وفنْزويلاّ وكولومبيا وهايتي وسانتو دومنغو وكوراساو وجامايكا وسواها، نافثاً في الْجوالي اللبنانية هناك حقيقة لبنان الْحضارية، وفي أبناء تلك البلدان رسالة عولَمة حضارية أسسها لبنان الفكر والعقل
اليوم، فيما أبناء “الرعية الواحدة” مشرذمون ضعفاء متناحرون بين “قرنة” و”منبَر” و”لقاء” و”تشاورات” ومشاورات ومشورات وتصريْحات، وجَميعها قبضُ ريح زائلٌ وزائف في زمن عاصفة مُخيفة تَجتاحنا وتُهددنا باقتلاع الْجذوع والْجذور، فليتعلَّموا من حبيب أسطفان كيف تكون القامة اللبنانية الْحرة الْمستقلة الْجريئة، قبل أن يَخجل منهم تاريْخ الْحرية والكلمة الْحرة في لبنان، وقبل أن ينْـتَفض عليهم ويلعنهم الى الأبد أبناء لبنان.