2 أيلول 2002
– 268 –
في اليوم الأخير من سِمبوزيوم “أيام رأْس الْمتن الدولية الثانية للرسم والنحت” (تسَنّى لي أن أتابعه يومياً وأعيش مع فنانيه تَجربة “الانغماس الكلي”- “أزرار” 266) بقيت كمية من الألوان والأقمشة، فبادر فنانون الى وضع لوحة “مشتركة” استخدم كلٌّ واحد منهم رقشة منها ليضع بفرشاته لَمسة خاصة تتجاور مع لَمسة أخرى لفنان آخر. ولَم يكتف بعضهم بالفرشاة والألوان الزيتية فاستخدم مواد أخرى (قطعة قماش، مزقة جريدة، خرقة خشبية، شقفة حجر…) هي ضمن أسلوبه في استخدام الْمواد التشكيلية. ولفتني قول أحدهم (حين سألته عن ذلك): “الْمادة التي تَحمل العمل الفني قد تكون أحياناً أهَمّ تعبيراً من مضمون العمل نفسه، والـ”لافنّي”، قياساً على الْمصطلح التقليدي لـ”الفني”، قد يكون أحياناً أهَمّ من “الفني” الاصطلاحي، لكنّ التقليديين لا يتقبّلون الأفكار الطليعية”.
هذه الظاهرة، أراها نقطة مناقشة وتداول أساسية في “سِمبوزيوم الأدب والفن” (“أزرار” 267) فيتبادل الْمشاركون فيه فكرة أن تتداخل الفنون (بل تتزاوج) في ما بينها، إغناءً لَها مُجتمعة ولكل منها في ذاته، عوض طلاقٍ لكل فن عن الآخر يفقده فرصة تلاقح هو، في أساسه، مصدر نُمو وتكاثُر. فَماذا لو تداخل في الفنون الأدبية الشعر والنثر والقصة والرواية والْمسرح…، في تَجربةٍ مدروسة غير مرتَجَلة ولا مراهقة، كما تتداخل الْمواد الْمختلفة (ألوان زيتية، خشب، قماش، ورق، حصى…) في اللوحة التشكيلية الواحدة، أو كما يتداخل الْحفر والنحت والألوان في “اللوحة الْمنحوتة”، أو كما تتداخل عناصر مُختلفة (حجر، حديد، خشب، …) في الْمنحوتة الواحدة، أو كما يتداخل الشريط الْمصوّر (سينما أو فيديو) في الْمسرح، أو كما يتداخل في السينما الأسود والأبيض مع الألوان، أو كما تتداخل الأوزان والبحور في القصيدة التفعيلية أو الكلاسيكية الواحدة…؟
إنه الشكل لا يعود مُجرد مستوعب حيادي، بل عنصراً أساسياً يعادل الْمضمون، وهو ما أصاب الْمارشال الكندي ماك لوهان في تَحديده: “الشكل جوهر، كالْمضمون، يَخلق فكراً جديداً ويَمحض الْجوهر قيمة جديدة”. ومن يتأَنّى على صقل الشكل (الأسلوب، الوسيلة، الأداة، الصياغة، اللغة، الْموسيقى في النثر، الوزن في الشعر،…) يعرف الضنَى اللذيذ في موازاة الشكل والْمضمون، اللغة والفكرة، التعبير ووسيلة التعبير. وهذه خصيصةٌ إذا اجتمع لَها الْمعنيون في “سِمبوزيوم الأدب والفن” توصل الى نتيجة جديدة طليعية مثرية فنياً. فخلوة السمبوزيوم تتيح البحث في الأمر بكل تبسط، لأن الإنتاج الفني في الْخلوة يسبق الوقت ويتسع له، بينما الإنتاج خارج الْخلوة يسبقه الوقت ويهرب من بين أصابع الفنان كالزئبق فلا سلطة له على التقاطه ولو بعد زوال الأوان، وفوات العمر.
هذه الْخطوة لا يقوم بِها إلا مثقف مُنْتِج لا يساير مُجتمعه بل يرفع مُجتمعه إليه: لا يتقدم عنه كثيراً كي لا يَسِمَه مُجتمعه منعزلاً وشاذاً و”برجعاجياً”، ولا يبقى في مستوى مُجتمعه فيكون كأبناء بيئته ويهبطون به إليهم.
إنّ في تزاوج الفنون الأدبية، الْمدروس والْمُتْقَن، خلاصاً لَها وثراء أكيداً، وفي استمرار طلاقِها الْحالِي تباطؤاً لَها قاتلاً في عصر العلْم والاستعلام والعولَمة.