246: كي لا ترحل طيور أيلول

4 نيسان 2002
– 246 –
طوال الطريق من زغلا (حاصبيا) الى عيْن قنيا، كانت ترافقنا أشجار زيتون حبلى بزيت البركة، وأشجار صنوبر حبلى بِحكايات الْجبل. قبالتنا جبل الشيخ (2814م) بِمهابته البيضاء، عن يَميننا حاصبيا وخلوات البياضة، وبقعة صنوبرية جَميلة سيقوم عليها قريباً مركز ثقافي متعدد الوظائف (دورات تدريبية، تعليم لُغات، صالات مسرح، قاعة مُحاضرات، غرف تدريب على الأشغال اليدوية، نشاطات ثقافية واجتماعية). نبلغ شويَّا. يتمهل عماد السوقي (صاحب تلفزيون “حرمون”)، يشير الى تلة صخرية: “هنا مَجموعة من النواويس الفينيقية”. وما كدنا نترجَّل الى الْمغارة والنواويس الثلاثة الْمكهوفة بيْن الصخور، حتى دوّى قبالتنا تَماماً انفجار تلاه دخان كثيف. “بدأ القصف” قال عِماد. واقترح أن نعود، بعدما كان في التصميم أن يذهب بي الى مزارع شبعا.
في طريق العودة، لَم يشأ الصديقان كمال أبو غيدا وجوزف الغريب أن يَحرماني من اكتشاف الْمنطقة، فاقترحا أن نزور الكفيْر. ومال بنا عماد يَميناً، فاجتزنا ميمس، بلدة زيت وزيتون وصنوبر، وشقائق نعمان (برقوق) طالعة على طرف الطريق متحدية رهبة الْخطر. يشتد القصف. نَمر بِمدخل شجري جَميل، فيقول عماد: “هذه هي الكفيْر، واسْمها أيضاً كفيْر الزيات”. تسبقنِي لَهفتي الى السؤال: “أين بيت إملي نصرالله”؟ وفي ثوان كان عماد يوقف السيارة: “هذا هو”. وبذاكرتي عن “طيور أيلول” رحت أتأَمّله بغصة في القلب: بوابة مغلقة، شبابيك مغلقة، عريشة فوقه حزينة، وراءه مـدٌّ مطبق يتطربش هو الآخر بعريشة حاسرة، وعلى شرفةٍ مهجورة تَجلس نبتة خزامى مثل والدة ثكلى ترقب عودة أولادها من خلف البحر، كأنّها تنتظر، حقاً، عودة طيور أيلول.
وعلى دوي القصف الذي بدأ يتزايد، أكملنا زيارة الكفَيْر: ساحتها، عيْن مائِها الْمثلثة القناطر، مداخن الشتاء تنفث لُهاثَها الراجف، بيوتُها الناطرة جَميعها أيضاً عودة طيور أيلول. أعاود السؤال: “وأين بيت راجح الْخوري؟”. نُكمل التصعيد حتى أعلى الضيعة: “هذا هو”. نتوقف. قبالتنا الْخلوات، ونَهر الفاتر وجبل القاطع، وحرمون (جبل الشيخ) الذي بات أقرب، وعلى مقلبه الآخر السويداء وحوران وجبل الدروز. بيت راجح على علوة جَميلة مشرفة، تَحرسه صنوبرة وتينة وأكيدنيا. في طريق العودة يشيْر كمال: “هذا هو بيت فارس بك الْخوري. وهنا، قرب هذه القاعة العامة الأنيقة، بيت أهل السيناتور جيمس أبو رزق الذي زار الكفيْر قبل سنتين”.
يعنف القصف قبالتنا وتتعالَى أعمدة الدخان: هي الْمقاومة البطلة في مُحيط مزارع شبعا ترد على الصلف الشاروني الْمتمادي خلف قيلولة الضميْر العالَمي. يزداد الدوي، ويزداد الصمت بيْن البيوت التي نَمر بِها في طريق عودتنا الى حاصبيا، حيث كان لقائي في ثانويتها الرسْمية “مقاوماً” هو الآخر (كما قال مهندس اللقاء توفيق أبو دهن)، ومثله كان لقائي الشعري في مركز الْمطالعة والتنشيط الثقافي أمام جَمهرة نُخبوية من الْمثقفيْن.
طوال ذاك النهار الْحاصباني، كان قلبِي على أهالينا الذين، رغم معنوياتِهم العالية، يَجهدون في صمود لبناني رائع، كي لا ترحل من أعشاش قرميدها طيور أيلول.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*