229: أربعة وتسعون

الخميس 6 كانون الأول 2001
– 229 –
كنا حوله مساء الأحد الماضي (2 كانون الأول) نحتفل بعيده الرابع والتسعين.
بل الأصح أنه هو الذي كان حولنا، بأناقته التي لا تخطئ، وهيبته الأكاديمية التي لا تلين ولو مازجها بمرح له معتاد نجم كل سهرة وكل مجلس، بذاكرته الحاضرة دائماً أسماء وتواريخ وأرقاماً وأحداثاً وتفاصيل.
عجيب أمر هذا الرجل: ما زال يحلم بربيع لعمره دائم، يطرزه مرة بمشروع كتاب، وأخرى بمخطط دراسة. ولم يحدث أن اعتذر عن عدم المشاركة في احتفال محلي هنا، أو ندوة عربية هناك، أو مؤتمر دولي في أوروبا وسواها، كأنه المقبل على المنبر الأكاديمي بربيع العطاء لا بخريفه، وبالإقبال على الحياة لا باتقاء غدراتها.
يثقل العمر على كتفيه فينقصه بطرف إصبعه أن “انكفئ، لا وقت عندي لك”، ويروح يمضي في “إنجاز” كتابات له تعهد بها: هذا المقال، هناك دراسة، هنالك مقدمة كتاب، وبينها جميعاً على طاولته كتاب جديد يكمل مخطوطته كل يوم، أو موعد لحديث تلفزيوني أو لمحاضرة لن يكتب منها حرفاً لأنه يرتجلها ولا يرف له لسان.
قبل ايام، وببادرة شجاعة من الناشر الصديق شارل رعد (الأهلية للنشر والتوزيع)، صدرت مؤلفاته الكاملة (“70 سنة من الإنتاج التاريخي والفكري والأدبي”) في 23 جزءاً، فإذا بها أجمل هدية له في عيده الرابع والتسعين. وإذا كان صدورها عادياً، كصدور المؤلفات الكاملة لأي مؤلف، فالمذهل أن يكتب هو نفسه في مقدمة الجزء الأول: “بين يدي الآن برنامج عمل يمتد حتى نهاية 2002 يشمل دراستين تاريخيين وبحوثاً عدة وترجمة كتاب، وعندي كتاب عن المغرب العربي بدأته السنة الماضية وسأهيئه للنشر سنة 2003”.
بلى: كاتب هذه السطور “فتى” في الرابعة والتسعين، “شاب” في خريف العمر، يستقبل الحياة كل يوم بشمس جديدة من الفرح والاقتبال، ويجلس إلى طاولته يومياً يكتب، يومياً يقرأ ويتابع، يومياً ينتج بغزارة هي- يا ما شاء الله- نموذج لنا جميعاً على أن الإنتاج نسغٌ لشرايين القلب، والكتابة اليومية تجديد دائم لعضلات الفكر، وأوكسيجين متواصل لرغبة الروح في الحياة ضمن هذا الجسد الذي نضخّ له العافية كل يوم إذا ابتعدنا عن الهم والنق والسرساب والقلق والأرق والهلوسة والثرثرة وتضييع الوقت بما يفتح الباب للشيخوخة في ربيع الأيام.
نقولا زيادة في الرابعة والتسعين (41 كتاباً بالعربية، 6 كتب بالإنكليزية، 11 كتاباً معرباً عن الإنكليزية، 93 بحثاً أكاديمياً بالعربية، 13 بحثاً ودراسة بالإنكليزية، ومئات المقالات والمحاضرات بالعربية والإنكليزية، 615 1 حديثاً إذاعياً بالعربية، 504 بالإنكليزية) وجدناه أكثر عافية وحيوية، يا حماه الله ورفده بالصحة الدائمة.
نقولا وزيادة، في عيده الرابع والتسعين، تعلمنا منه أن نقتحم الحياة لا أن نستسلم لها.
نقولا زيادة: زدنا من تسعيناتك نفحة حياة وصبا ونضارة وشباب لخمسياتنا وستيناتنا والسبعينات ، إن فيك حباً للحياة لو تباركنا بلمسة منه لعرانا اندفاع يجعل حياتنا الفكري أضعاف أضعاف.
أطال الله عمرك، ومنحنا أن نتشبه بك دائماً كي نمجده ونؤمن بأعجوبة حب الحياة.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*