الجمعة 23 تشرين الثاني 2001
– 227 –
بعد أيام (14 كانون الأول): خمسون عاماً على غياب فؤاد سليمان (1951 – 2001). وعلى أبواب الخمسينية، كان لا بد من زيارة فيع، وخصوصاً: درب القمر فيها.
لا أعرف كيف كانت فيع أيام فؤاد سليمان، ولا ما تغيّر فيها اليوم من معالم مرت على قلمه. لكنني أعرف أني، منذ دخلت فيع الضيعة (السبت الماضي) راحت خيالاته، ولو مبهمة، تتراءى لي ضيعة حلوة في بال شاعر.
ومشيتها “درب القمر”. قيل لي: “من هنا كان يمشيها، إلى آخرها، فوق، حيث تعود فتلتقي طريق الضيعة”. مشيتها كلها، وأومأ لي مرافقي إلى فوق، إلى نقطة وسط الفضاء، قال: “هنا يقف القمر، في صحو الليالي، فينشر فضته على الدرب، فوقها تماماً، كأنه لؤلؤة منحوتة في الليل، تضيء على درب القمر كلها، ويتزحلق نورها إلى تحت، إلى أسفل هذا الوادي الرهيب”. والتفت حدي، فأرى بالفعل وادياً سحيقاً مخيفاً، وأنتبه إلى أن “درب القمر” فعلاً على شفير وادٍ خطر. ويكمل مرافقي، وكنا وصلنا إلى نحو منتصف الطريق: “أترى هذا البيت فوق؟ إنه بيت جوزفين، حبيبة الشاعر (زوجته في ما بعد). كان يمشي هنا على الدرب، وكانت هي فوق، تطل من شرفة بيتها فوق، فيستمر هو هنا وتجمد هي هناك، وتأخذهما درب القمر إلى حكايا الحب والجمال والفرح”.
أعود إلى ذاكرتي، أقرأ ما كتب فؤاد سليمان في “درب القمر”: “في الدرب عندنا، نلمح الصبية الحولة على شباك بيتها، تمسح البلور بالبلور، أو تشم أطباق الحبق على الشرفة، أو تنفض الحصير الأسمر ليوم العيد… وتطل الدرب تمشي بنا عودة وذهاباً، عسى أن تعود صاحبة اليد البلورية إلى شباكها… لوحت لي مرة من فوق الدرب، من تحت شباك بيتهم الغربية. كانت بلون الزهر، وفي عمر القمر. يومها (أنا) عرفت “درب القمر” في ضيعتنا. كانت الدرب، من قبل، تؤدي بي إلى البيت، في عودتي من عند جدتي في الضيعة المجاورة، فصارت الدرب من يوم لوحت لي من فوق، لا أول لها ولا آخر”.
اليوم، وبلدية “فيع” تتهيأ (في احتفال “الأوديسيه” بخمسينية فؤاد سليمان: جامعة البلمند- 20 كانون الأول (المقبل) للإعلان عن “مشروع درب القمر” (تأهيل الدرب للمشاة والسياح، حديقة عامة، تمثال نصفي، ولاحقاً مكتبة عامة على اسم فؤاد سليمان)، أرى فؤاد سليمان يغتبط في حيثما هو الآن، لرؤية “درب القمر” صورة في خياله الشاعر تحولت، بعد خمسين عاماً على رحيله، مزاراً للشعراء والعشاق وقادري أدبه الجمالي الفريد.
وهذا القمر الذي كان ينشر شلال فضته على “الدرب”، وبيت الحبيبة فوقها، والوادي السحيق تحتها، سيصبح علامة في السماء لمن سيحجون بخشوع النساك إلى الدرب التي كتب عنها فؤاد سليمان أجمل لآلئه الأدبية.
وإذا كان فؤاد سليمان قد قال في أبو شبكة أنه (في الثالثة والأربعين) “راح قبل أن تطلع الزنابق البرية على التلال وقبل أن يطلع بخور مريم في حنيات الصخور”، فهو أيضاً (في التاسعة والثلاثين) راح قبل أن تنسحب الأشعة الفضية عن دربه. فعساه يتعزى بعد أيام في خمسينيته بعودة الروح الفضية الشاعرة إلى دربه الحبيبة: “درب القمر”.