الخميس 15 تشرين الثاني 2001
– 226 –
لم يكد ينشف حبر مقال الأسبوع الماضي (“أزرار” 225) وفيه أن لبنان “دولة صغيرة” لكنه “وطن غير صغير”، حتى طالعنا أحد السياسيين عندنا (“نهار” السبت 3 تشرين الثاني) بتصريح لمناسبة جرت في إحدى البلدات التابعة له، جاء فيه “صحيح أننا وطن صغير، لكن لنا دوراً بين بلدان المنطقة”.
لا يزال سياسيونا يخلطون بين “الدولة الصغيرة” التي يمثلونها، و”الوطن غير الصغير” الذي يملأ تاريخه صفحات التاريخ، صنعه ولا يزال يصنعه أبناء لبنان على أرضه وفي دنيا الانتشار.
مرة أخرى: لبنان الدولة هو المساحة التي تبسط عليها الدولة سلطتها الجيوسياسية. ولبنان الوطن هو تاريخه (وأي تاريخ مجيد!) وهو شعبه المقيم وما فيه من طاقات كبيرة، وشعبه المنتشر وما له من تأثير حوله. أي، في الحالتين، لا أهمية جيوسياسية في “لبنان الوطن”، ولا فضل لـ”بيت بو سياسة” في إشعاعه وأمجاده.
من هنا تشديدنا على أن “لبنان الدولة” (بمقياس الأكبر والأصغر) صغير، نعم، ولا عيب في أن تكون الدولة صغيرة المساحة، فهل أصغر في العالم من دولة الفاتيكان، ولكن (بمقياس الجودة والنوعية) ماذا عن مدى إشعاعها؟
كيف نجعل سياسيينا يقرأون تاريخ لبنان كي يعرفوا لبنان؟ كيف نجعلهم يعون أن “الوطن الصغير” هو وطنهم هم، أي وطن دولتهم الجيوسياسية الذي لهم (وبالكاد) نفوذ فيه وعليه ضمن فقط حدوده المعترف بها دولياً، بينما لبنان الوطن مساحته الزمان الماضي والآتي وأوطان الدنيا كلها (ولا نفوذ للسياسيين فيه ولا دور).
كم واحداً بين سياسيينا يعرف قول بول موران إن “صيدا وصور كانتا ذات يوم كل تاريخ العالم؟”.
كم واحداً بينهم يعرف موقف فيكتور بيرار عندما ذهب نفر من اللبنانيين إلى مؤتمر الصلح (باريس 1920) فحوّلهم المسؤولون عند بيرار، حتى إذا قابلوه اقترحوا عليه ضم لبنان إلى فرنسا فيصبح ملحقاً بها كما جزيرة كورسيكا التي اشترتها فرنسا من جمهورية جنوى. فانتفض بيرار الخبير بتاريخنا: “ماذا؟ تريدون أن تضموا لبنان إلى فرسنا؟ لو فرنسا طلبت الانضمام إليكم يجب أن ترفضوا”. وبيرار هو صاحب القول الشهير (في كتابه: “الفينقيون وأوروبا”): “فينيقيا كانت الأرض الأم لقارة وراء البحر تدعى أوروبا”. فهل يعرف سياسيونا هذه الرواية؟
كم واحداً بين سياسيينا يعرف عبارة غبريال هانوتو (صاحب كتاب “تاريخ الأمة المصرية”): “إن لم يكن جلا لبنان هو الأعلى بين جبال العالم، فهو أعلى أمة في تاريخ الحضارة؟”.
سياسيونا، ومن لف لفهم من مدّعي العمل السياسي في لبنان، ومعهم من يقيمون قيامتهم على العولمة، هل يعرفون أن مناهضة العولمة تبدأ بوعي تاريخنا وتأثيرنا وأمجادنا، قبل أن يتشدقوا بكلام جاهل أرعن يجعلنا “تابعين” و”ملحقين” و”قانويين”، فيما نحن، بمدينتين فقط من عندنا (صيدا وصور) كنا ذات فترة كل تاريخ العالم؟
سياسيونا الذين يتحدثون عن لبنان بصيغة أنه “بعض” لا “كل:”، لا يستحقون الكلام باسم لبنان، لأنهم يلهجون بمنطق الـ”كمية” لا “الجودة” أي بمنطق “الأكبر والأصغر”. وما هكذا يقاس لبنان.