5 تشرين الأول 2001
– 221 –
تلقيت هذا الأسبوع رسالة ساخطة من قارئ يأخذ علي كثرة الـ”أنا” في الـ”أزرار” وإدخالي فيها حكاياتي وأخباري وتجاربي ومشاهداتي الخاصة: مُتَّهماً إياي بـ”النرجسية” وحب الـ”أنا”.
قد يكون هذا القارئ مصيباً (القارئ دائماً على حق لأننا في النهاية نتوجّه إليه في ما نكتب ، وإذا لم يكن رأيه يهمّنا فلمن نكتب؟) ولكنه قد يكون واقعاً تحت تأثير الـ” “أنا” مَمجوجة” (مقولة بليز باسكال)، أو أنه ليس مطلعاً، بِما يكفي ، على الأدب العالمي الزاخر بـ”الأدب الشخصي” أو “أدب المذكرات”.
أنا (وليعذرني هذا الساخط على الـ”أنا” مرة أخرى) كل أدبي ، منذ مطالعي في صناعة الكتابة ، أدب ذاتي شخصي ، منه أخرج إلى الآخرين مستطلعاً أو قارئاً أو متابعاً، ثمَّ لا ألبث أن أعود إليه مشتاقاً.
ذلك أنني، في مطالع حياتي الأدبية، تشبعت من أدب فؤاد سليمان وسعيد تقي الدين، وكلاهما سيّد في الأدب الشخصي والذاتي، بل – كما يسميه “أبو ديانا”-: “الأدب الحي”. ومن زمان طويل، وعيت كم أن القارئ يُحب هذا الأدب الشخصي، ويجب أن يتابع أحداث حياة الكاتب بقلم الكاتب نفسه، وما يحوطها من أخبار ومُجريات وتجارب (لا بنرجسية متشاوفة كبريائية مريضة) حتى ليشعر القارئ أن الكاتب لصيق به وهو يقرأه.
وقد يكون الأدب العربي أقل ألآداب إنتاجاً للأدب الشخصي وأدب المذكرات، ربَّما كي لا يوسم كاتبوه بالنرجسية أو الشخصانية أو حب الـ”أنا”، حتى أن طه حسين كتب “الأيام” بصيغة الغائب، وتوفيق يوسف عواد في “حصاد العمر” لجأ إلى أسطورة “شق وسطيح” كي يتكلم بصيغة الغائب ولا يستخدم الـ”أنا” طوال الكتاب.
لو لم يعثر توفيق صايغ في جامعة نورث كارولاينا (تشابل هيل) على رسائل جبران إلى ماري هاسكل ومذكراتها الشخصية عن حياتها مع جبران (نشرها في كتابه “أضواء جديدة على جبران” وعادت فرجينيا حلو فنشرتها كاملة في نيويورك: “النبي الحبيب”) لكان جزء كبير (بل أساسي وجوهري) من سيرة جبران وشخصيته غاب عنا فغابت عنا ملامح ضرورية جداً لفهم جبران الإنسان مما لم يكن ممكناً بلوغه من كتابات جبران نفسه.
قياساً بذلك، كل كتاباتي هي من الأدب الشخصي أو الذاتي “الحي”. إنها سيرة ذاتية بدون أن أسميها كذلك. فكل ما أكتبه هو مذكرات مسلسلة على مقالات وحلقات وكتب، لا للـ”أنا” التي فيها بل لأحداث وعلاقات مع الآخرين تهم القارئ بما تضيئه على الآخرين لا بما تضيئه علي أنا. ومقالاتي من أميركا لـ”النهار” وقبلها لـ”النهار العربي والدولي” شاهدة لما كانته حركة ثقافية لبنانية في الولايات المتحدة ما كان يمكن بلوغي إياها لو لم أكن جزءاً منها. فدوري من مقالاتي (منذ مطالعي ومطالعها) لا أن أكون محللاً أو ناقداً، بل أن أخبر قارئي كأنه معي فأنقل إليه حياة نابضة متحركةلا يمكن أن تبلغه بالحرارة نفسها لو أخبرته إياها بصيغة الغائب.
فوحدها حرارة الـ”أنا” تتواصل مع “أنا” القارئ، وليعذرني صاحب الرسالة الساخطة، هذه ليست نرجسية بل تعرية الذات أمام الآخر بكل ما لهذه الذات من مجريات وأحداث تتصل بي لتنتقل مباشرة إلى… “أنا” القارئ.