27 أيلول 2001
– 220-
أدمانا ما شاهدناه في 11 أيلول من “ضرب” البُرجين- الرمزين في نيويورك، فسقوطهما كبيوت الكرتون أو كمشهد سينمائي من أبرع نتاج الخدع التقنية الهوليوودية.
كما أوجعنا ألا تجد ال”سي. إن. إن”، لوصف نيويورك بين الرماد والدمار والدخان، إلا عبارة “كأننا في بيروت”، تذكيراً لما كانت شاشات الولايات المتحدة تنقل عن بيروت مناظر قلّما كان يكترث لها الأميركيون، بل كانوا أيامها ينعتوننا بأبشع التهم الإرهابية، وأقساها ظلماً و”صزرة نمطية”، معتبرين أن هذا “لا يحدث إلاّ للآخرين” ولا يُمكن أن يحدث في أميركا “قائدة العالم”.
أما اليوم، وقد ذاقوا معنى الدمار والرماد والدخان (كما كانوا في رخاء بيوتهم يشاهدون من بيروت) فالأمر انتقل بهم من التفرج الحيادي على “عذاب” الآخرين إلى الذعر الحقيقي خارج شاشات تلفزيوناتهم وأفلام هيوليوودهم.
اليوم ذاق الأميركيون طعم الخوف ومعنى عذاب الآخرين من الظلم والإرهاب ووقوع الشعوب الصغيرة والدول الصغيرة ضحية “الكبار” و”تركيب” الأفلام السياسية والعسكرية والإرهابية على طريقة الأفلام الهوليوودية.
اليوم لم يعد الكاوبوي يَخرج من الشاشة إلى تصفيق، المشاهدين، بل صار يخرج من خوف الشعب الأميركي إلى شاشات الآخرين.
اليوم يشهد العالم ولادة ال”هَمّ” الأميركي في صفوف الشعب وعلى مستوى القاعدة. قبل اليوم، لم يكن لدى الشعب الأميركي “هَمّ” بالمعنى اليومي.
قضيت ست سنوات في الولايات المتحدة، متنقلاً ومُحاضراً وحاضراً أمسيات وندوات وبرامجَ وعدداً كبيراً من المؤتَمرات الأدبية والشِّعرية، وكنتُ أتابع (بذهول أحياناً) بساطة (كي لا أقول “سطحية” أو “سذاجة”) في الإضافات على شؤون الأدب والتراث (التراث؟!). وحين كنتُ عضو الهيئة الإدارية ل”رابطة الشعراء في فلوريدا”، كنت كل مرة أستمع إلى قصائد الشعراء الأميركيين، يأخذني العجب من مواضيع تعالجها قصائدهم، تراوح بين وصف هرة، أو بكاء زهرة ذبلت على شباك، أو هدية جاءت من حفيدة، حتى إذا تسنّى لي أن أقرأ من شعري المترجم إلى الإنكليزية، كنت أبدو كأنني آتٍ من كوكب آخر ذي هموم ومشاكل ومآسٍ، إلى كوكب أفلاطوني هانئ لا هموم فيه ولا مآسي ولا مشاكل.
أما أحاديثهم، خارج الشِّعر، فيومية مباشرة هي بنت محيطهم الأقرب (كي لا أقول “الضيّق”) يبدو من خلالها ترف الحياة الهانئة التي لا تُعنى، بل لا تريد أن تزعج حالها وتُعنى، بمآسي الآخرين خارج القارة الأميركية. وكان هذا يفسّر لي ازدحام “المُجمّعات التجارية” بآلاف الأميركيين المترفين بشراء الأحذية والنظّارات وكماليات لا يكلفهم شراؤها سوى توقيعهم الكريم على “بطاقة ائتمان” كانت موظفة الصندوق، كيّ تجمع دولارين وثلاثة دولارات، تلجأ بكل سذاجتها إلى الآلة الحاسبة أمامها لتجد الجواب لأنها مترفة (كي لا أقول “مخروعة”) فلا تزعج عقلها الضئيل بجمع أرقام بسيطة سهلة.
اليوم ولد ال”هَمّ” الأميركي، وهو شرارة صغيرة من نار همومنا، ومعظم مصدرها من “بلاد العم سام” التي ظلت تفبرك أفلام الرعب والعنف والإرهاب حتى خرج ماردها من القمقم وانقلب عليها.
يُوجعنا أن يكون الشعب الأميركي أصيب بهذه الكارثة البشرية الرهيبة، فهو حتماً لا يستحق هذا المصير ولا هذه الصدمة التاريخية الفاجعية، ولكنّ الذي كان يشاهد روما تحترق فيراها من فوق، أو على الشاشة أمامه وهو رافع قدميه في الهواء ويحتسي تنكة البيرة، سيذوق الآن هول روما تحترق وهو في قلب النار.
أوجعتنا الفاجعة، لكننا، نحن، سننسى بعد وقت لأننا منصرفون إلى “همومنا” اليومية المختلفة تماماً عمّا كان عليه الترف اليومي الأميركي. أما الوجع الحقيقي فسيبدأ بعد زوال الدمار والركام والدخان، حين سيكتشف الشعب الهانئ الرغيد أنه يشهد ولادة ال”هَمّ” الأميركي، أي أنه استيقظ وقد بات لديه “هَمّ”، أقلّ ما فيه أنه لن يدعه بعد اليوم يتفرّج حيادياً على هموم الآخرين أمام شاشة النلفزيون، وربَّما ستتدخل في قصائد شعرائه مواضيع نابضة، لا وصف الهرة، وهدية جاءت من حفيدة، وبكاء زهرة ذبلت على شباك.