21 أيلول 2001
– 219-
مرَّ بي في وقفاتي المنبرية أن ألقي قصائدي في الهواء الطلق: مرة على شط البحر (جبيل)، ومرّة بين خرائب بيت مقصوف (النبطية)، ومرة في قاعة مفتوحة (رحبة-عكار)، ومرة ساحة مفتوحة من كل الجهات (حاصبيا)، ومرة في باحة بيت (عبيه)، ولكن لم يحدث لي أن قرأت شعراً في…. مقهى.
حين اتصل بي الصديق الدكتور نزار دندش (أستاذ العلوم في الجامعة اللبنانية) ناقلاً رغبة “رابطة شباب الغد” في الهرمل بدعوتي إلى أمسية شعرية في “مقهى عابدين”، بدأت فوراً بالاعتذار: لا أتصورني أقرأ شعراً في مطعم أو مقهى، والناس يمضغون ببطونهم ويحرتقون بالسكاكين والملاعق ويتحدثون مع أصحابهم حول الطاولة، تماماً كما يحدث مع الجهابيذ صيصان المطاعم وقبابيط القهاوي، فاصبح أنا مثلهم بالتمام والكمال.
غير أن الدكتور دندش (وهو ابن الهرمل ويعرف أصحابه) أكد لي أن المقهى ليس سوى مكان، أما الجمهور فسيجلس كما في أية قاعة محاضرات، ولا طاولات أمامه. ثم أردف أن المقهى مجاور لنهر العاصي، وأن الإطار العام شاعري جميل ومؤاتٍ لقراءة الشعر.
ذهبت إلى الهرمل، ليس في قلبي شك بما قاله الصديق نزار بل قلق من مفاجآت هناك قد تعكر صفو التهيؤ.
وحين وصلت (الثلاثاء) وجدت المقهى وقد تحول فعلاً إلى قاعة محاضرات، وما أزف الوقت حتى كان الحضور قد ملأ الكراسي بل فاض، وسرير العاصي يحاذي أرض المقهى بخرير هادئ وانسياب مهيب. قبل لحظات من بدء الأمسية، وكان نزار وجدني أتأمل النهر الهادر، اقترب مني وقال بغبطة: “عمره ملايين السنوات جرياً وهديراً وانسياباً بلا شح ولا توقف، بل هو كان هناك، فوق، عند رأس هذه التلة، ثم مع آلاف السنوات أخذ يوسع سريره ويغور في الأرض حتى انحدر مستوى سريره إلى حيث هو اليوم”. قالها، وارتفع جبينه أكثر، فلمحت في صوته خيالات جميع النهر واحة يتكوكب حولها الأهالي ويكرسونها جيلاً بعد جيل علامة حضارية وتاريخية وطبيعية لهم للتشبث بالأرض.
أية موارد تجنيها الدولة من هذا النهر؟ كيف توزع خيراته على الناس؟ بقي سؤالي بلا جواب، كما أسئلة كثيرة (خصوصاً بعدما اصطحبني الأصدقاء إلى مرجحين، الضيعة الساحرة التي كان يَمضي فيها جبران صيفيات طفولته. ولها قريباً مقال آخر مطول في “النهار”) وبقيت أسئلتي بدون جواب عن إهمال قاتل ترتكبه الدولة في عدم استصلاحها الهرمل ومياه الهرمل وجرود الهرمل واحات سياحية وبيئية من أروع ما في لبنان على الإطلاق.
أما جمهور الأمسية الشعرية، فكان من الأكثر ثقافة وتلقفاً وإصغاء والتقاط اللعبات الشعرية، جمهوراً ثقيفاً عميقاً يعوض عن كونه من الأطراف التي تهملها الدولة، بأنه في القلب من مبادرات ثقافية تحمل إليه حيز مرعفة لا تسهلها الدولة المشغولة، مثل “مرتا”، مهملة أبناء لها في الأطراف هم في قلب القلب من الوطن.
في الهرمل وجدت مواطنين عريقين كعاصيهم، وأصيلين كجذوع السنديان واللزاب في جردهم المهمل.