الجمعة 27 تموز 2001
– 211 –
مرة أخرى، أيها الطوباوي المطل علينا من بلاد العم سام، تهزني لبنانيتك اليوتوبية المختزنة الخبرة العالية والحكمة العالية. فمقالك “لبنان الرسالة : ماذا بقي من الرسالة؟” (“نهار” 24/7/2001) صرخة صادقة من قلبك لكنها (كصرخاتي وصرخات الطوباويين أمثالنا) لن تصل إلى أسماع المعنيين بها. ذلك أن هؤلاء لا يوجعهم لبنان، هم المفترض بهم أنهم القيمون على لبنان وشعب لبنان وهموم لبنان.
كلماتك التي أرسلتها إلي بالبريد السريع (العام الماضي عند نيلك جائزة جبران) لا تزال تحفر في بالي وقلبي لشدة ما فيها من لبنانية كورانية أصيلة وعريقة ما كانت تبقى بهذا التوهج لو انك، يا صديقي الطيب، تعيش معنا هنا، وتعاني وتعاين ما يفعله هؤلاء الناس الذين تتوجه إليهم بكل طوباوية، وتسألهم أن يحافظوا على لبنان. ولا أظنّك تؤمن بجدواهم، طالما أنت قلت عنهم في مقالك : “حكّامه ليسوا أسياد القرار بل لا يريدون أن يكونوا أسياد القرار. والذين جاؤوا ليبنوا المؤسسات يمعنون في هدمها، ويحوّلونها قلاعاً تخدم مصالحهم الشخصية. إن معظم موظفي الدولة أزلامهم للسياسيين، وليس فيهم واحد زلمة لبنان”.
فكيف تريد من شبابنا المتخرجين، يا صديقي الطيب، ألا يهاجروا نهائياً فيلتحقوا بابني الذي هاجر إلى أميركا نهائياً لأنه فقد الأمل بهؤلاء الذين يبنون قلاع مصالحهم ولا يضعون حجراً واحداً في قلعة لبنان؟
تقول إن “اليأس أخطر عدو للتقدّم”؟ معك حق. ولكن الشمعة التي تريد أن تضيئها لتقاوم اليأس والظلام، أنا أضيئها، وتضيئها أنت، ويضيئها الطوباويون المجانين بلبنان مثلنا، لأننا نحن نعرف قيمة لبنان وعظمة لبنان التي يتقزم أمامها المسؤولون عن لبنان منذ نصف قرن حتى اليوم. لكن أبناءنا، رعيل ابني وأترابه والرعيل اللاحق، كبروا على صورة لبنان التي توجعك وتوجعني، وهي التي جرحتك حتى صرخت “ماذا يبقى من لبنان الرسالة؟”، ولذلك فضّلوا أن يبتنوا لهم وطناً في الخارج تكون فيه دولة، ولو غريبة عنهم، تحمي مواطنيها وهم بينهم، على دولة مفترض أنها لهم ومنهم، لكنها تحمي أزلامها ومحاسيبها الذين يوماً فيوماً تتزايد رائحة فضائحهم المنشورة على الناس.
“تعالوا ننزع الأقنعة عن وجوهنا” تقول؟ لا يا صديقي الطيب الراتع هانئاً في عدالة بلاد العم سام، لا عن وجوهنا بل عن “وجوههم هم”، أولئك الذين هم بالذات قلت أنت عنهم إن “اللبنانيين فقدوا الثقة بهم”. فكيف تريد أن يسكن البيت من لم تعد عندهم ثقة بسقف البيت، وصار معرضاً للمطر والعواصف والتشرّد الجاثم على الباب؟
بلى، يا أخي فيليب : عن “وجوههم هم” فلننزع الأقنعة، بطهارتنا وبراءتنا. وكل يوم وكل ساعة فلنشر إليهم بأصابعنا وأصواتنا ومقالاتنا ومنابرنا، حتى يخرجوا من جميع القاعات ويسقطوا عن جميع المنابر والشاشات، وحتى لا يعود أحد يحترمهم أو يصافحهم أو يقيم لهم وزناً أو اعتباراً. وعندما يعرف أبناؤنا أن الفريسيين خرجوا من الهيكل، ويتأكدون أن لبنان الدولة العادلة الحازمة عاد، عندئذ يعودون إليه ليعيشوا فيه بكل قناعة مثلي وطوباوية مثلك، حاملين العلم اللبناني في يد، وفي الأخرى صورة مكبّرة لبوابة الباستيل.