الخميس 2 آب 2001
– 212 –
ليس عادياً ما يجري في زوق مكايل! نفهم أن يحتشد الناس مئات وآلافاً فس افتتاح “ليالي السوق العتيق”. أما أن يظلوا يتوافدون آلافاً كل ليلة، حتى ليتعذر المرور بين الكتف والكتف، وفي كل شبر من “السوق العتيق”، فظاهرة استثنائية تستعدي التوقف والتأمل : ما الذي يجعل هذا المكان المميز يعج بالناس إلى هذا الحد اللافت؟
ربما تلبية لحاجة السهر المغاير (على طريقة “التسكع” في مونمارتر) أو البحث عن متعة الفرح في واحة شاعرية حالمة بكل ما حولها ومنها وفيها من زوغة مشاهد ووجوه وفنون وحرف، أو ربما معايدة هذه “الليالي” التي خلقت دورة اقتصادية مكثفة وأوجدت فرص عمل حية ومباشرة، وحققت ميدانياً غاية السياحة الثقافية في لبنان. فزائر “السوق العتيق” في زوق مكايل يكون حقاً رأى الحرف اللبنانية مُجتمعة من كل لبنان : يزور من الصرفند الزجاج المنفوخ، ومن طرابلس النحاس والصابون، ومن جزين السكاكين، ومن البقاع والجنوب والشمال والجبل سائر حرفها التقليدية، وجميعها لا معروضة في واجهة باردة بل هي ورش عمل حية يصنعها بارعوها أمام الزوار.
كل ذلك في إطار طبيعي تاريخي تراثي يخلقه “السوق العتيق” في زوق مكايل، بطابعه المرمم الصقيل، يتفرع منه “درج القمر” وزواريبه التي تعترضها رائحة الياسمين الأبيض فتدهم العشاق بفضائح العبق، والإضاءة الخاصة التي تجعل زائر “السوق” كأنه في سوبر سينما سكوب، بالجسر الحالي الإسمنتي المعبّد والمرمم مؤخراً قنطرة جمالية تجمع الحجر المقصوب إلى الخشب المعتق، يطل قبالته جسر المشاة الخشبي الجديد واصلاً جناح “السوق العتيق” و”بيت الحرفي” الجامع كل لبنان، بجناح المدرج الروماني المهيب الذي ينتظر افتتاحه قريباً بأعمال فنية لبنانية ضخمة وأخرى دولية عالمية كبرى على مستوى فني واحد مع بعلبك وبيت الدين.
هذا “السوق العتيق”، يزوره الآلاف ليلياً (ينتهي وقت الزوار عند منتصف الليل ولا يغادر الزوار) من جنسيات عربية (خليجية بشكل لافت) وأجنبية، يتأملون فيه تلاقي الثقافات والحضارات منصهرة في هذه البقعة الخرافية الجميلة من زوق مكايل، تخيلها ذات ليلة نهاد نوفل (رئيس البلدية المغاير) منذ تسلم رئاسة البلدية قبل 38 عاماً، وحين أطل الصباح أخذ يحقق لبلدته حلماً بعد حلم، لم تنته أحلامه بعد ولا انتهى تحقيقه أحلامه لزوق مكايل، مع أنها باتت اليوم بلدة مميزة في كل لبنان، وحتى خارج لبنان في بلدات تتوأمت مع زوق مكايل أو تتخذها مثالاً، مما جعل منظمة الأونسكو تختار زوق مكايل “مدينة السلام عن العالم العربي للعام 1999-2000”. وكان سعيد عقل قبلذاك طويلاً قال : “لو نستطيع أن نخلق في سراياتنا نماذج من نهاد نوفل لتغير وجه لبنان الحضاري”.
فيا دولة، يا هذه الدولة : زوق مكايل نموذج حي وصارخ عما تستطيعه البلديات إذا أنت أفرجت عن أموالها. فقد يكون عندنا عشرات من أمثال نهاد نوفل يتوقون إلى التنفيذ ولا أموال ليدهم لأنك تحتجزينها فتحرمين لبنان كله من زوغة فن وحضارة قد يحققها مسؤولون عن السلطات المحلية الأهلية. فبادري يا دولة، يا هذه الدولة، وإلا فجميع تنظيراتك مجانية، وليست أكثر من كلام سياسي فارغ للاستهلاك.