204: الليل حولي… وأمامي القدس

الجمعة 8 حزيران 2001
– 204 – عمّان
على أثر الاحتفال الذي أعده سفيرنا في الأردن أديب علم الدين احتفاءً بالذكرى الأولى لـ”عيد المقاومة والتحرير”، وبعدما أمن زيارة لي إلى “مغطس” مار يوحنا حيث اعتمد المسيح في نهر الأردن، وحيث اكتشفت أنني على 7 كلم خط نار من أريحا (إحدى أقدم الواحات التي سكنها الإنسان)، بقيت لي رغبة في رؤية القدس التي حرمتني حرب جزيران 1967 زيارتها. وإذ لم يكن ممكناً هذا الأمر من عمّان، تفضل الصديق الشاعر جريس سماوي باصطحابي إلى حيث يمكنني تحقيق تلك الأمنية، ورؤية القدس على بعد 30 كلم خط نار.
ومع سدول ليلة صفا فيها نور القمر فوق ضفتي الأردنـ كانت السيارة ترتقي بنا إلى الفحيص (بدلة جريس) وهو يشرح لي ما فيها من عراقة وتراث. وما هي، حتى انعطف عند تلة مغمورة بالليل تماماً وتوقف قائلاً في تأثّر: “هذه هي القدس. إلى هذه التلة أجيء غالباً، أتأمّل وأكتب الشعر، والقدس أمامي. هذه، أمامك، حيث بقعة الأنوار هناك، منحدرات السفوح الشرقية لمدينة القدس، وفي ناحية منها جبل الزيتون لكنك لا تراه في العتمة”.
وفي لحظات انخطافية لم أعرفها في حياتي، انبسطت أمامي سماء صغيرة من الحب والصلاة، من البطولة والاستشهاد، من مدينة هي أيقونة المدن ومذبح اغتصبوها جعلوها مدينة الاقتتال الدائم والموت اليومي.
الليل حولي يلفني كوشاح من ضوء ذاكرة، وأمامي القدس تلفني بقشعريرة من حنان وحنين. هذه، على 30 كلم مني ولا يمكنني دخولها، كنيسة القيامة التي لم تشهد قيامة السلام بعد، وهذا المسجد الأقصى الذي يشهد ما يشهد من أقصى القهر والحزن والإجحاف الدولي الصارخ، وهذه قبة الصخرة التي يرنو إليها كل من لم يستطع، مثلي، أن يزورها قبل 1967، أي قبل النكسة التي أسقطت أقنعة الدجل والخيانة عن وجوه من يفترض أنهم حكام المقاومة والتحرير منذ 1948 قبل أن تتوسع رقعة الاحتلال والاغتصاب بقعة زيت بعد بقعة زيت، وقبل أن تصبح الآلة العسكرية العدوة ناراً ودماراً على الأرض وأهل الأرض.
ها هي أمامي، بكامل أنوارها الحزينة والمشتاقة، القدس التي هي “مدينة الصلاة”، التي هي “بهية المساكن، وزهرة المدائن”، التي “عيوننا إليها ترحل كل يوم”، التي هي مدينة “الطفل في المغارة وأمه مريم وجهان يبكيان”، التي لم يهرع إليها حكام يفترض أن يكونوا اجتمعوا على إنقاذها كي لا يتفشى طاعون اختلالها في المحيط، فتخاذلوا حتى تفشّى الطاعون وتدنست به أرض بيروت قبل عشرين عاماً، وما ولنا ندفع حتى اليوم نتائج ذلك الدنس.
ها هي أمامي، هذه الليلة التي امتلكتني فيها رعشة غريبة هي بين الحنين والحنان، وبين الغضب والتكرّد على زمن عربي أسود يترك شعباً تحت رعب موت يومي ولا يواجه مجتمعاً دولياً مجحفاً منحازاً إلى أعداء الله والإنسان.
حين ندهني جريس سماوي من غيبوبتي لم أكن أعلم أن نحو ساعة كانت انقضت، وأنا منتخطف إلى التطلع من هناك، من تلة الفحيص العالية إلى أنوار مدينة الصلاة أمامي، حيث لا يزال ينتظر طفل وأمه… “وجهان يبكيان”.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*