203: زيارته في بيته المهجور

الخميس 31 أيار 2001
– 203 –
– هذا هو مفرق إبل السقي.
وانعطفنا يميناً عند حاجز للكتيبة الهندية (من قوات الطوارئ الدولية) أشار لنا بالمرور. بلغنا حديقة عامة ذات تمثال. “هذه ساحة الماهاتما غاندي”، يوضح لي رفيق الرحلة جوزف الغريّب، ويضيف في إكبار: “نفّذها الجنود بأيديهم من حجار الضيعة بعدما استأذنوا بقطعة الأرض من البلدية”. نتوقف عندها: “نظيفة، مرتبة، تحوطها وتتوسطها الأزهار، وعلى صدرها تمثال نصفي للماهاتما غاندي بنظارتيه الشهرتين، فوق قاعدة محفور عيلها بعض من تاريخ الرجل ومآثره، فأكبرت أن تقطن الكتيبة الهندية ضيعة لبنانية تزرع فيها تمثالاً لرمز بلادها.
اقتربنا قليلاً، صبية جالسة عل باب دكان، ذكّرتني بقصيدة الأخوين رحباني: “ع شمالك فيه دكانه بتبيع مغازل صوف، وبنت بتقعد سهيانه، تنطر تَ يجيها ضيوف”. أسألها: “أين بيت الأستاذ سلام الراسي؟”، تبتسم بفخر وترفع يديها بحماسة: “هنا، في أسفل هذه النزلة”. نتوجه إلى حيث أشارت، ينقبض القلب والضمير: بيت مهجور، مهدوم، بلا سقف ولا شبابيك ولا أبواب، لا أثر فيه إلا لقذائف كان “الشباب” يتسلون بتصويبها على البيت كي يتقنوا فن الرماية. نسمع صوتاً من تحت، من محقان المي. ثم ينشب أمامنا رجل: “أهلاً وسهلاً. الداعي يعقوب اللقيس وكيل أملاك الأستا سلام. شرّفتم. أنتم صحافيون؟”. يراني أنظر في كل مكان، يرتجل نفسه دليلاً: “هذه أملاك الأستاذ سلام. 262 كعب زيتون. تمتد أرزاقه إلى هناك، تحت. هل ترى هذا العمود البعيد؟ هذه هي حدوده. ولكن… لمن؟ الأرض مهجورة. لو تقول لخالد، يا أستاذ. خالد قادر أن يعيد ترميم البيت. يجيئنا دائماً زوار مثل أفضالكم، يسألون يصورون، ويغادرون في حزن أن يكون هكذا بيت أستاذنا الكبير سلام الراسي”.
أجيل طرفي في المحيط، صنوبرة عالية، شجرة دفلى مزهرة، أرزة متوسطة، لوزة جوزة، توتة. أدخل البيت: بيت الحشيش عالياً بين البلاط في الدار والغرف. مرعب هذا المشهد، بين بيت كان بالأمس يعجز بزوار سلام الراسي، وبيت صار اليوم بلا سقف وليس في غرفه إلا الحشيش. “القرميد كله محفوظ”، يوضح يعقوب، “حين اشتد القصف، خلعناه كي نحفظه. ووضعناه في القبو”.
أقف في البيت، وأتصل خلوياً بسلام الراسي في بيروت. يتهدج تأثراً صوته المتهدج من شيخوخة: “يا لطيف! أنت فوق؟ كأنني أنا زرت البيت. كيف حاله؟ يصعب علي أن أراه بهذه الصورة”. يغص صوته. أنهي المكالمة.
وأنا أغادر، انحنيت على الأرض لممت رأس لعبة من بورسلين كانت في زاوية. سأحفظها عندي بقية من بقايا بيت سلام الراسي. يرافقني يعقوب ويلح مجدداً: “معقول أن يبقى هكذا بيت سلام الراسي، هو الذي له في إبل السقي كل هذا التراث؟ لماذا لا تقول لابنه خالد أن يسعى إلى ترميم البيت كي لا يحيء السياح ويجدونه خربة”؟
في العودة، نمر مجدداً بالصبية على باب الدكان. تلوّح لنا بيدها كما راجية هي أيضاً أن نطالب بترميم البيت. و… من يعقوب والصبية وإبل السقي، ومنا، إلى … خالد.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

*